الرئيسية

الدكتور إبراهيم سعيدإن أعقد مشكلة في الحياة هي الحياة نفسها، وأثمن شيء في الحياة نفسها... ومع أن الكثيرين من الناس يبتغون مطالب كثيرة في الحياة، ويسعون في سبيل بلوغها سعيًا لا هوادة فيه ولا لين، غير أن أهم شيء يسعى إليه الناس في الحياة، هو الحياة نفسها.
فبذرة النبات التي تحملها الرياح العاصفة وتلقيها اعتباطًا فوق صخر، تشق طريقها في قلب الحجر على رغم ضعفها الظاهر، لتصل إلى طعامها، فتنبت وتعيش وتترعرع في وسط الصخر. ما أشبهها بجذوة نار متقدة فوق سطح البحر، أو واحة نضيرة في قلب قفر. والنملة التي تدبّ على سطح الأرض فيدوسها الإنسان بالعشرات والمئات وهو لا يدري، لا تتوانى عن طلب قوتها بجد وكفاح من غير كلل ولا إعياء، مما حدا بسليمان الحكيم أن يتخذ منها أستاذًا للإنسان يتعلم منه معنى الكفاح في سبيل الحياة، إذ قال: "اذهب إلى النملة أيها الكسلان، تأمل طرقها وكن حكيمًا".
والإنسان نفسه الذي يحيا حياة أسمى في نوعها من حياة النبات أو الحيوان، لا يكف مطلقًا – حتى إذا كان مكفوفًا عن طلب رزقه وقوته في الحياة عن كل سبيل مشروع – وإذا عزّ عليه هذا، طلبه عن سبيل غير مشروع. وحجته في هذا أن الحياة مطلب يرخص في سبيلها كل مطلب، وهي غاية قصوى تصغر دونها كل غاية.
يحدثنا سفر الجامعة عن محاولات "الجامعة" للحصول على أفضل ما في الحياة، فوجّه قلبه  لطلب المال، وتبيّن له في النهاية أن "الكل باطل وقبض الريح". ثم انصرف للبحث عن السعادة بين المسرات والملذات، فرجع بالنتيجة عينها: "الكل باطل وقبض الريح". وأخيرًا قال في مرارة لاذعة: "فلنسمع ختام الأمر كله، اتّقِ الله واحفظ وصاياه لأن هذا هو الإنسان كله".

فما هي الحياة الحقيقية؟

هي الحياة التي يصل فيها الإنسان إلى جوهر الحياة نفسها – وهي التي وصفها المسيح ورسله القديسون بهذا الوصف العظيم "الحياة الأبدية". فلن تكون الحياة حياة حقيقية إلا إذا كانت حياة أبدية.
غير أن السواد الأعظم من الناس يظنون أن الحياة الأبدية هي الحياة الطويلة الأمد. وهم يجهلون أو يتجاهلون أن طول الحياة قد يكون لعنة على الإنسان لا بركة له.
فماذا ينتفع الوالد الذي يطول أجله فيرى أولاده وأحفاده يُدفنون أمام عينيه تحت أطباق الثرى؟ إن هذه شر نقمة يمكن أن يصاب بها إنسان ما، أن يكون أطول أهله وذويه عمرًا.
إن طول الحياة لا قيمة له إذا لم تكن الحياة هنيئة سعيدة، لا ظلام فيها ولا ظلال، لا أوجاع فيها ولا آلام، لا دموع فيها ولا حرمان، حياة لا تغرب شمسها لأن المسيح شمسها، بل المسيح هو روحها وقوامها وحياتها.
هذه هي الحياة الأبدية التي قال فيها المسيح لنيقوديموس في حديثه الجليل: "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية".
هذه هي الحياة الأبدية التي جاء ذلك الشاب الناموسي يبحث عنها، فقال للمسيح: "ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية"؟
هذه هي الحياة الأبدية التي أوصى بولس تلميذه تيموثاوس من جهتها قائلاً "أمسك بالحياة الأبدية التي إليها دُعيت".
فهي إذًا حياة المسيح نفسه، هي حياة المسيح فينا، بل هي المسيح متجسدًا فينا. "فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس".
وهي ليست حياة كامنة في قلب المستقبل المجهول، نتوقع أن نرثها، بعد ان ينقلنا المنون إلى حضرة الله في السماء، بل هي حياة حاضرة نحياها الآن، ونستمتع بها الآن، وبها تدخل السماء إلى قلوبنا قبل أن ندخل نحن إلى السماء.
إذا كانت هذه بعض أوصاف الحياة الأبدية، فلمن إذًا هذه الحياة؟ إنها ملك لكل من يؤمن بالمسيح ابن الله الوحيد الذي بذله كفارة عنا نحن الخطاة "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية".
إن كلمتَي "كل من" أوسع وأعمّ من كل كلمة في أية لغة من لغات الأرض، فلو أنهما أبدلتا باسمي أنا الخاطئ، واسم أبي ولقبي، لضعفت قوتهما بالنسبة إليّ، وظننت أنني قد أحسب محرومًا من هبة الحياة الأبدية. فالحياة الأبدية هبة مجانية يهبها الله للذين يؤمنون بابنه الوحيد الذي بذله كفارة عن خطايانا أجمعين.
فكما أن حياتنا الجسدية الطبيعية قد وُهبت لنا من الله عن طريق الميلاد الطبيعي، فلم يكن لأحد منا حق اختيار الوالدين، ولا فضل لنا في هذه الحياة لأننا لم نخلق أنفسنا، فولدنا صغارًا، ولما كبرنا وجدنا أنفسنا متمتعين بهذه الحياة. كذلك الحياة الأبدية هبة من الله لنا ننالها عن طريق الميلاد الثاني. "الذين وُلدوا ليس من دم، ولا من مشيئة جسد، ولا من مشيئة رجل، بل من الله".
وهذه الحياة صارت حقيقة واقعة في شخص المسيح كلمة الله المتجسد: "فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس، والنور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه". وكما قال المسيح نفسه في غرة صلاته الشفاعية موجّهًا فيها الخطاب إلى الآب: "وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته".
ومن عجب أن كلمة "حياة أبدية" لم ترد مطلقًا في العهد القديم، مع أنها وردت خمسًا وثلاثين مرة – بحصر اللفظ – في العهد الجديد، وفي أغلب المواضع وردت على لسان المسيح له المجد.
نعم، كانت الحياة الأبدية معروفة على صورة ما، لرجال العهد القديم، لكنها كانت كحلم، أو خيال، وفي أقوى الحالات كانت انتظارًا وأملاً ورجاء.
ما أشبهها بالقارة الأمريكية، فقد كان الناس في أوربا وفي أسبانيا بنوع خاص يتوقعون أن يجدوا قارة جديدة يوما ما، لأنهم كانوا يعثرون على أشياء طافية فوق سطح البحر، فكانوا يعللون بها وجود عالم جديد. وكان البعض من شعرائهم يتغنون بأمجاد هذا العالم الجديد، كما يتغنّى الإنسان السجين بيوم حريته، والمريض بيوم شفائه وبرئه، ولكن بعد أن قام كولومبوس على رأس فريق من البحارة، واكتشف أمريكا وعاد إلى بلاده بالخبر اليقين، عندئذ صارت أمريكا حقيقة واقعة لا مجرد حلم أو خيال.
فبعد تجسّد المسيح صارت الحياة الأبدية حقيقة ملموسة، لأنه هو الحياة المتجسدة. فمن عرفه عرف الحياة الأبدية بل نال الحياة الأبدية.
وهذه الحياة ننالها نحن المؤمنون بعملية تطعيمنا في المسيح، الكرمة الحقيقية. ومن المسلم به، أن التطعيم يتم بجرح الشجرة القوية من جانب، ومن الجانب الآخر بجرح الشجرة الضعيفة، والسماح لعصارة الشجرة القوية أن تتسرب في "عروق" الشجرة الضعيفة.
ولقد جرح المسيح عنا على الصليب، فعلينا  نحن أيضًا أن نصلب أنفسنا وشهواتنا وملاذنا، لنتطعم في المسيح الكرمة الحقيقية.
هذا هو الاختبار الجليل الذي حدّثنا عنه بولس الرسول في قوله: "مع المسيح صُلبت، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيّ. فما أحياه الآن في الجسد، فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله، الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي".
وآخر وسيلة علينا أن نقوم بها لنتمتع بالحياة الأبدية التي في المسيح، هي أن نزيل كل عائق وننزع كل خطية تقف حائلاً في سبيل اتصالنا واتحادنا الحي بشخص المسيح.
وكما قال المسيح لأقرباء لعازر أمام قبر لعازر: "ارفعوا الحجر"، كذلك يقول لنا الآن: "ارفعوا الحجر".
قد يكون هذا الحجر خطية محيطة بنا بسهولة.
وقد يكون شيئًا بريئًا في ذاته لكنه يصبح لنا عثرة كالعين أو اليد.
وقد يكون قريبًا أو صديقًا يقف حائلاً أو ينهض حائطًا سميكًا يمنع اتصالنا بالمسيح.
مهما يكن هذا أو ذاك، علينا أن نرفع الحجر. فأعني يا إلهي لأرفع الحجر.