الرئيسية

القس يعقوب عماريثانيًا: طهره المطلق

 هذه صفة تشهد لها كتب الأنبياء، إذ لم يماثل المسيح بها إنسان. سنوضح بعد قليل لماذا اختُصّ المسيح بتلك القدسية المطلقة من دون غيره، إنما قبل ذلك نستعرض بإيجاز بعضًا مما ذُكر في أسفار الوحي عن قدسيته:

1- في إنجيل لوقا 35:1 خاطب الملاك العذراء يبشرها بأنه منها سيولد المسيح. قال: "القدوس المولود منكِ يُدعى ابن الله" (كلمة القدوس لا تطلق على غير الله).

2- في أعمال الرسل 14:3 يخاطب الرسول بطرس اليهود الذين تنكروا للمسيح فقال: "أنتم أنكرتم القدوس البارّ".

3- وفي الأصحاح 7 من السّفر نفسه، يخاطب القديس استفانوس اليهود قائلاً: "أي الأنبياء لم يضطهده آباؤكم، وقد قتلوا الذين سبقوا وأنبأوا بمجيء البار (المسيح) الذي صرتم مسلميه وقاتليه".

4 - في رسالة بطرس الأولى 22:2 يخاطب الرسول بطرس المؤمنين مذكرًا إياهم بأن يراعوا السلوك الحسن، وأن المسيح ترك لنا مثالًا لكي نقتدي به ونتبع خطواته فيقول مشيرًا إلى المسيح: "الذي لم يفعل خطية ولا وُجد في فمه مكر".

5- في رسالة كورنثوس الثانية 20:5-21 يخاطب الرسول بولس أبناء الكنيسة بأن يسعوا كسفراء عن المسيح، واصفًا إياه بأنه لم يفعل خطية.

6- في الرسالة إلى العبرانيين 15:4 يتحدَّث الكاتب عن المسيح بأنه في ناسوته كان مجربًا في كل شيء مثلنا إنما بلا خطية.

7- يعرض لنا الأصحاح الثامن من إنجيل يوحنّا موقفًا جدليًا لمجموعة من الفريسيين اليهود في مواجهة المسيح. وهؤلاء كانوا حزبًا دينيًا متشددًا بتطبيق الشريعة، على نمط ما نراه اليوم بين الشعوب من متطرفين يتشدَّدون بتطبيق شرائعهم بطرق مثيرة للجدل. فرد المسيح عليهم بحزم قائلاً: "لماذا لا تفهمون كلامي؟ لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولي" (يصعب عليكم أن تسمعوا الحقيقة فتتفهموها).

ثم كشف الغطاء عن هوية مَنْ ينتمون إليه فقال: "أنتُم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا، ذاك كان قتالاً للناس من البدء ولم يثبت في الحق لأنه ليس فيه حقّ. متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له لأنه كذاب وأبو الكذاب" (يوحنا 8: 44). ثمّ تحدّاهم قائلاً: "مَن منكم يبكتني على خطية"؟

ونحن نقولها اليوم على مسمع من الدنيا كلها: من يستطيع أن يعيب المسيح في شُبْهةِ خطأ تُخْجلنا نتيجة موقفٍ منه، أو تصرّف صدر منه فأحرجنا في كيف ندافع عنه لنبرر ما تصرَّف به!

فخرنا بالمسيح أنه كامل الصفات، لا نظير له بين البشر، لا شيء فيه يعيبه، أو يُخجِل مَنْ يتمسك به. أمّا لماذا اختُصَّ المسيح بهذا المستوى السامي من القدسية فهناك على الأقل سببان:

أولهما: هوية هذا الكائن العجيب الموصوف بالطهر المطلق. فهو الله الظاهر في الجسد، تجلَّى بيننا بهيئة إنسان مولود من عذراء عفيفة كما سبق وتجلّى في عليقة (شجرة) على مرأى من موسى!

وثانيهما: أنه جاء طاهرًا أنقى من قرص الشمس كي يفدي البشرية من تلوّثٍ أصابها يوم سقط آدم في الجنةٍ فطُرِد منها وطُرِدنا معه لنشقى في أرض المنفى بانتظار من يأتي ليفك أسرنا، ويصالحنا مع الله ويعيد لنا ما خسرناه. فجاء المسيح وفدانا، صائرًا ذبحنا العظيم!

وهل يُعقَل أن يتساوى الفادي بالطهر والقُدسيّة مع من يفديهم؟

وفي علمنا أن الذبح العظيم يُشترط فيه أن يخلوَ من العيب لكي يقوم بمهمته على وجه سليم. وهذا يفسِّر لماذا الشيطان لم ينخس المسيح بالنخسة التي ينخس بها كل مولود في هذا الوجود، وهي النخسة التي تسميها المسيحية "طبيعة السقوط " الموروثة من آدم، وتنتقل عدواها إلى كل من ينتسب لآدم من البشرية.

فلو وُلِد المسيح من أبوين أرضيين مثل باقي الناس، لورث مثلنا طبيعة السقوط التي ورثته البشرية من آدم.

ولو حصل، فذلك سينفي عنه صفة القدسية المطلقة التي شهدت بها كتب الأنبياء. وتبعًا لذلك تنتفي عنه إمكانية أن يكون هو الذبح العظيم لفداء البشرية. إذ كيف يمكن لإنسان يحمل نخسة الشيطان (أو طبيعة السقوط) أن يفدي من يحملون نفس ما يحمل! ولذلك اقتضى أنَّ مَنْ يفدي البشرية يكون في مستوى أقدس شأنًا وأعلى مقامًا، ليفدي من هم دونه من خطاة.

ولأن لا وجود لمن يتمتع بمثل ذاك المستوى السامي من الطهر والقدسية سوى الله، جاءنا الله بذاته حبًا بنا، وعطفًا علينا، ورحمةً بنا، فارتضى أن يتجسَّد على أرضٍ هو خالقها، واكتسى في تجليه بيننا بعباءة اللحم والدم، وظهر بين الناس بهيئة المسيح، وقدّم جسده الخالي من العيب ذبيحة كفارية عن البشرية ليصالحها مع نفسه. فالذي مات على الصليب ليس هو الله بل جسد المسيح - اللحم والدم - الذي ارتضى أن يتجلى فيه، فتحمَّل عنا قصاص خطايانا بجسده المصلوب، لنعيش بعدها حياة نقية مرضية لدى الله.

هذا هو ملخص كل ما جاء به الإنجيل للبشرية. وكلمة "إنجيل" كلمة يونانية وليست عربية، وتعني "البشارة السارة". فما يقدِّمه الإنجيل لشعوب الأرض هو "بشرى سارة" تقول: الله يحبكم، جاء من سماء مجده متجسّدًا بهيئة إنسان محبة بكم ليفديكم ويعيدكم إلى جنة أفضل من جنة آدم. فتلك لوّثها آدم واندثرت فلم تعد قائمة، وصار بديلاً عنها جنة فردوس سماوية أطهر من قرص الشمس، لا يدخلها إلا من اغتسل بدم المسيح.