الرئيسية

الدكتور صموئيل عبد الشهيد ورد في مزمور 15:116 هذه الآية: "عزيز في عينيّ الرب موت أتقيائه". وهي آية غريبة في الكتاب المقدس نصًّا ومضمونًا، وتبعث على التساؤل والحيرة. وإذْ رحت أتأمّل فيها سألت نفسي: إن كان موت التقي هو عزيز في عينيّ الرب، فلماذا يسمح الله بموته، ويتركه للفناء الجسدي؟ ألا يفرّق الله بين التقيّ والخاطئ، ويطبّق عليهما شريعة الموت من غير تمييز؟ لقد جابهت هذه الحقيقة الرهيبة عندما وجدت نفسي أقوم بخدمة تأبين أخت مؤمنة قضت معظم حياتها في العمل الإرسالي في الشرق والغرب حتى بعد أن بلغت التسعين أو ما يزيد من عمرها. وكان لا بدّ لي أو لعقلي الباحث أن أتوقّف عند هذه المعضلة لأجد لها تعليلاً مقنعًا.

وأوّل ما تبادر إلى ذهني أن مأساة الموت قد دخلت إلى العالم من جراء تعدّي الإنسان على وصية الله، وكان المتعدّي هما أبوانا الأوّلان آدم وحوّاء ممثّلا الجنس البشري، فصدر الأمر الإلهي بالعقاب الشامل لكل من يولد من ذريتهما، فأصبحنا كلنا خاضعين لشريعة الموت نتيجة لهذا التمرّد على أوامر الله لأن هذه الشريعة أصبحت قضاء محتّمًا على كل الجنس البشري.

غير أن هذه الشريعة لم تكن في القصد الإلهي في خلق الإنسان لأن الإنسان خُلق ليخلد، ولكن بفعل حرية الاختيار الذي ميّز الله به الإنسان عن غيره من المخلوقات أضحى الإنسان تاج خليقة الله، قادرًا على العصيان، فحقّت عليه الدينونة، وانتقل من حالة الخلود إلى حالة الموت والفناء الجسدي.

ولكن الموت الجسدي، الذي هو مصير كل إنسان، يختلف عن الموت الروحي، وهذا هو الفارق الكبير بين موت المؤمن وموت غير المؤمن. ولقد أدرك الرسول بولس هذه الحقيقة عندما أشار إليها في رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي 13:4 "لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم"، إذ أيقن أن الموت الجسدي هو إجراء مؤقت له نهاية محتومة مما جعله يقول في رسالته إلى أهل فيلبي 21:1 "لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح". ولعلّنا نتساءل هنا: كيف يمكننا أن نوفّق بين قول صاحب المزامير: "عزيز في عينيّ الرب موت أتقيائه" وأن الموت هو ربح في نظر بولس؟

لا ريب أن بولس الذي اختبر نعمة الخلاص على طريق دمشق كان مطلعًا على ما كان المسيح يردّده في أثناء خدمته الأرضية الجهارية: "أنا هو القيامة والحياة"، كما أن الكتاب المقدس يصرِّح بأجلى عبارة أننا غرباء على هذه الأرض ولا بدّ لنا في يوم من الأيام أن نعبر جسر الموت إلى الوطن السماوي الأبدي، وما وجودنا بالجسد في هذا العالم إلا لغرض إلهي وفق خطة إلهية علينا أن نقوم بتنفيذها أولاً. بل ما أشبهنا بسفير أرسلته حكومته ليكون ممثلاً لها في بلد غريب، وعندما تنتهي مهمته يعود إلى أرض وطنه. والواقع، كما يقول الكتاب المقدس إننا سفراء عن المسيح في هذا العالم الغريب.

على أننا في هذا العالم الذي نعيش، نحمل كمؤمنين كل سمات المسيح، لأننا نحن أحياء في المسيح، بل أكثر من ذلك، إن المسيح يحيا فينا! فقد جاء في الرسالة إلى أهل غلاطية 20:2 "مع المسيح صُلبت، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيّ". يا لروعة هذه الحقيقة أن يحيا المسيح فينا ونحن ما برحنا في هذا العالم الشرير! ويرد في مكان آخر على لسان بولس قوله: "قد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان، وأخيرًا قد وُضع لي إكليل البر" (2تيموثاوس 7:4-8). لهذا كان الموت لبولس ولغيره من المؤمنين هو ربح. هذه كلها من وجهة نظر بشرية، وهي تتفق مع المشيئة الإلهية. ولكن، كيف ينظر الله إلى موت أتقيائه، ولماذا ذلك عزيز عليه؟

أريد هنا أن أشير باختصار شديد إلى ثلاث نقاط لها أهميتها الخاصة في نظر الله.

 أولاً: شهادة المؤمن

إن المؤمن هو الأداة الصالحة التي تحمل كلمة الله إلى العالم أينما حلّ، وفي أي مجتمع يعيش فيه. وتتجسّد هذه الشهادة، في خلال حياته على الأرض بأقواله، وحياته، وسلوكه لأن الناس يرون المسيح فينا. إن المؤمن يحمل معه مشعل الخلاص لأنه هو نور العالم الذي يستمدّ ضياءه وقوته من مصدر كل نور، الرب يسوع، وقد دعا المسيح نفسه جميع المؤمنين به قائلاً: "أنتم نور العالم". وعندما يموت المؤمن جسديًا يعزّ ذلك على الله كما يعزّ على أي ملك أن يموت أحد أبطاله في ساحة الوغى. فحامل الرسالة بكل مضامينها هو مجاهد روحي لرفع راية المسيح خفّاقة في الآفاق. هذا ما فعله رجال الله القدامى في بدء نشأة المسيحية، وما يقوم به المرسلون، بل جميع المؤمنين في العصور التوالي. وعندما يموت الشاهد الأمين طبقًا لشريعة الله التي قضى بها، يعزّ ذلك على الله لأن أحد هذه الأنوار قد انتقل من الأرض إلى الأبدية التي هي ربح له، وإن كان موته يكون، إذا صحّ القول، كنجم خبا. ولكننا نحن كمؤمنين أحياء، عندما نذكر أحد أبطال الإيمان الذين نعرفهم لا نستخدم عبارة: "الله يرحمه"، لأن لا رحمة بعد الموت، ولكننا في سياق حديثنا عنه نقول: "الطيب الذكر"، وحقًا إنه طيّب الذكر لأنه خلّف وراءه حياة وتراثًا روحيًا مثمرًا. أما يرد في سفر الأمثال 7:10 "ذكر الصدّيق للبركة"؟

ثانيًا: مصدر تمجيد

"عزيز في عينيّ الرب موت أتقيائه" لأن الله يتمجّد بحياتهم على الأرض، على الرغم مما يصيبنا، نحن المؤمنين من آلام، وأوجاع، ونكبات، وضيقات، تمامًا كما حدث مع الصدّيق أيوب. فهو في غضون نكباته المتوالية، وما كان يقاسيه في عذاب مأساته قال: "أالخير نقبل من عند الله، والشر لا نقبل؟" وعلى الرغم من انقضاء ألوف السنين على موت أيوب ما زلنا حتى هذه اللحظة، نقرأ عنه، وندهش من إيمانه وصبره على المكاره، وتمجيده لله. أضف إلى ذلك، نرى في قصته أكبر عزاء لنا جميعًا عندما تلمّ بنا النوائب، فكان بذلك أعظم شاهد على قوة الله في حياته. ونحن كمؤمنين، الذين يحيا المسيح فينا في هذه الحياة، ومنه نستمدّ قوتنا وغلبتنا، ونسير في موكب جيش الغالبين، نمجّد المسيح في تحمّلنا لجميع مشاق الحياة من اضطهادات، وآلام، وطرد، وحتى في الموت كما فعل استفانوس والشهداء الأوائل والمعاصرين. وعندما نمجّد الله على الأرض يمجّدنا هو في الأبدية.

ومن هنا، يعزّ على الله موت تقيّه لأن واحدًا ممن كانوا يمجدونه قد خلا مكانه في الأرض.

 ثالثًا: الثمن الباهظ

عزيز على الرب موت أتقيائه لأنه دفع ثمنًا باهظًا من أجل فدائهم. فالذين آمنوا بفدائه، وانضووا تحت رايته، وسعوا في الأرض لربح النفوس. هؤلاء هم العَمَلة الذين تحدّث عنهم المسيح حين أشار إلى الحقول المبيضّة وحاجتها لمن يحصدها. ففي انهماك هؤلاء العملة في خدمة السيد، وزرع البذار وحصدها يتعظّم الله، ويشيع اسم المسيح في أرجاء المسكونة، وكل واحد من هؤلاء له مكانته الخاصة في قلب الله، فهم الذين اشتُروا بدم ابنه، وأطاعوا حتى الموت في خدمته، واختطفوا نفوسًا من قبضة إبليس الرجيم. فلا عجب أن يعزّ على الرب موت أتقيائه، لأن هذا العالم سيظلّ في حاجة لمثل هؤلاء العاملين إلى يوم مجيئه.

عندما ندرك هذه الحقائق ونتبين أن خالق السماوات والأرض يحزن على موت أتقيائه نشعر بتلك الصلة الحميمة التي نشأت بين المؤمن وبارئه. هي صلة دم مسفوك، وفداء أبدي، وعمل متواصل في حياة المؤمنين.

وأخيرًا، لا بد من القول أن الله قد حوّل مأساة السقوط إلى بركة. فنتيجة لهذا السقوط، وخطة الله لخلاص الإنسان جسّد الله محبّته، لأنه هكذا أحب الله العالم الخاطئ الذي كُتبت عليه شريعة الموت. لقد شُرّعت أبواب الرحمة، وانسكبت نعمته على الجنس البشري على الرغم من تمرّد الإنسان وعدائه، وفوق ذلك كله، نراه يعدّ منازل كثيرة للراجعين إلى الوطن السماوي بعد جهادهم في الحقول.

أجل، يعزّ على الرب موت أتقيائه، ولكن المكافأة الكبرى تكون دائمًا في انتظارهم للمثول بين يدي سيدهم الذي مات من أجلهم. لهذا فإننا جميعًا نستطيع أن نردّد مع بولس الرسول: "لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح" وهو ربح دائم لا يفنى، بل يبقى إلى الأبد.

فهل أنت أحد الراجعين من رحلة الاغتراب إلى وطنك السماوي الدائم؟