الرئيسية

الدكتور صموئيل عبد الشهيدإن الانتصار العظيم الذي حققته الكنيسة الأولى كان انتصارًا مُميَّزًا لا مثيل له في التاريخ الإنساني لأنه كان انتصار فئة قليلة العدد، ضعيفة الكيان، لا تدعمها قوة السلاح أو الكتائب العسكرية بل كان سلاحها الوحيد المحبة والتضحية والكرازة باسم يسوع، وشعارها دعوة الخلاص.
ولكي يتحقق هذا الانتصار كان لا بدّ للكنيسة أن تتخذ مواقف مصيرية تتحدّى فيها القوى التي تضافرت على القضاء على الشعلة التي أضرمها الروح القدس في يوم الخمسين. فاليهود من جهة، وعلى رأسهم الكتبة والكهنة والفريسيون راحوا يقاومون بشدة الدعوة الجديدة ويؤلّبون الشعب على الدعاة ويقبضون على رسل المسيح، فيُقتل بعضهم، ويجلد آخرون، ويُسجنون، مستهدفين بذلك إسكات صوت الضمير الواخز في قلوبهم لأنهم حكموا على المسيح زورًا وبهتانًا، وإخماد جذوة الخدمة الجديدة.

ومن جهة أخرى، خُيِّل للدولة الرومانية بكل سلطانها ونفوذها وسيطرتها أن المسيحية شرعت تهدّد كيانها ودياناتها الوثنية، فعمدت إلى مقاومتها؛ وأخذت تضطهد هؤلاء الضعفاء المساكين الذين لم يحملوا سلاحًا، ولم يصوّبوا رمحًا أو يسدّدوا سهمًا، أو قاموا بثورة، بل رفعوا راية المحبّة، داعين الكل، ومن غير استثناء، إلى التوبة والخلاص، معلّمين أن «أجرة الخطيئة هي موت. وأما هبة الله فهي حياة أبدية بالمسيح يسوع". وإذ اختبروا قوة الخلاص وفاعلية عمل الروح القدس، فقد أخفقت كل مقاومة - مهما كانت ضراوتها - أن تفتّ من عُضُدهم أو توهن لهم عزيمة بل زادتهم قوة وتصميمًا. فارتفعت نداءاتهم فوق زمجرة الأسود، وتجاوبت أصداء ترانيمهم فوق فرقعة النيران، وترددت صلواتهم من فوق عيدان الصليب لأنهم كانوا على ثقة كاملة بأن كنيسة المسيح التي صُلب من أجلها وسكب آخر قطرة من دمه في سبيلها لن تقوى عليها أبواب الجحيم، إذ جسّد المسيح في انتصاره على خشبة الصليب انتصار الكنيسة الرائع منذ بواكير نشوئها. وسرعان ما اندحرت قوى مقاوميها عبر العصور وما زالت حتى هذه اللحظة تتراجع أمام موكب نصرة المسيح وتبيد؛ وستظل الكنيسة حية تشهد ليسوع لأنها قائمة على إيمان أبدي بإله حيّ أبدي الذي وعد أن يكون معها وإلى انقضاء الدهر.
ولكي ندرك سرّ ثبات الكنيسة وقدرتها على مجابهة الضيقات والاضطهادات، علينا أن نتأمل في بعض الأسس التي قامت عليها الكنيسة فصمدت وانتصرت. وهي أسس يتوجّب على كل كنيسة أن تعتمدها في كل عصر وزمان إذ بدونها لا يمكن أن تؤدي الكنيسة رسالتها على الوجه الأتمّ، بل قد لا يكون للكنيسة أي تأثير لخدمتها وكرازتها على مجتمعها الذي تعيش فيه. وقد وردت هذه الأسس في أعمال 5:4-12 و19.

أولًا: الامتلاء والخضوع الكامل لإرشاد الروح القدس وقيادته

لقد وعد المسيح أولاً قائلاً: «لكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ» (أعمال 8:1). وقد سبق للوحي الإلهي أن أشار أنه "لا بالقوة ولا بالقدرة بل بروحي قال رب الجنود". ومعنى ذلك، أن على الكنيسة أن تدرك أن فعالية شهادتها لا تقوم على الأسس المادية أو القوى البشرية بل على الانقياد لإرشاد الروح القدس وتوجيهاته، لكي لا يكون عمل الخدمة وليد الإثارة الجسدية أو تعبيرًا عن الحسد والأنانية. فنجاح عمل الله منوط بإرشاد الروح القدس. والكنيسة التي لا تترك الحرية لروح الله كي يرشدها ويوجهها لا يمكن أن يحالفها النجاح.
لقد امتلأ الرسول بطرس بمسحة الروح القدس فألقى موعظته الشهيرة، وربح للرب ثلاثة آلاف نفس وهو أمر لم يكن في وسعه أن ينجزه لولا تلك المسحة المقدسة. واستطاع هو ويوحنا أن يقفا في وجه رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيين وتحدّياهم في ظروف لم تكن قط في صالحهما، ولكنهما أذعنا لقيادة روح الله وانتصرا على الرغم من تهديدات أعدائهما، وواظبا على الكرازة باسم يسوع.
إن كل كنيسة لا تنقاد إلى إرشاد الروح القدس وتعمل طبقًا لتوجيهاته، هي كنيسة لا يُكتب لها النمو؛ هذا إن لم يكن قد تسرّب إليها دبيب الموت.

ثانيًا: مضمون الدعوة

إن الكنيسة التي لا تكون أمينة لتعليم الكتاب المقدس، وتعتنق حقائقه، ويكون المسيح هو محورها هي كنيسة زاغت عن الحق الإلهي لأن مضمون الدعوة في جوهرها هو شخص المسيح بالذات. قال المسيح لتلاميذه: "... وتكونون لي شهودًا...". فالمسيح هو المحور، بل هو الكل وفي الكل لأن «به كان كل شيء، وبغيره لم يكن شيء مما كان». وكل ما ورد في العهد الجديد من تعليم، وإيمان، وعقيدة تدور حول شخص المسيح. فالدعوة المسيحية من غير المسيح هي دعوة باطلة، أو فلسفة بشرية لا علاقة لها بخلاص الإنسان. وعندما سأل رؤساء الكهنة والكتبة بطرس ويوحنا عن إبرائهما للرجل الأعرج من بطن أمه: «بأية قوة وبأي اسم صنعتما هذا؟" كان الجواب صاعقًا ومثيرًا: "... أنه باسم يسوع المسيح الناصري..." (أعمال 10:4).
أجل كان يسوع وحده محور رسالة التلاميذ ومضمونها. كان هو الدعوة كما كان هو صاحبها، ومخلص البشرية من مصيرها الرهيب. والكنيسة التي تدعو الناس إلى دين ما، أو إلى تقاليد من صنعها بمعزل عن المسيح، ولم تجعله الكل وفي الكل هي كنيسة انحرفت عن وظيفتها وعن جوهر رسالتها.

ثالثًا: الجرأة

قبل الامتلاء بالروح القدس، كان قطيع التلاميذ قطيعًا خائفًا منكمشًا على نفسه، منطويًا في علّيّة، حائرًا، قلقًا بل همَّ بعضهم أن يعودوا إلى حرفتهم القديمة وهي صيد السمك. ولكن بعد الامتلاء تبدّل كل شيء وكأن تلك المرحلة الموحشة لم يكن لها وجود. فقد خرج التلاميذ إلى العلانية، وجابهوا طوائف من الناس من كل قبيلة ولسان منادين باسم ذاك المصلوب الذي كان محرّمًا عليهم أن يرددوا اسمه. حدث الانقلاب التاريخي في حياتهم ومن ثمّ في حياة الكنيسة من بعدهم. وأكثر من ذلك تحدّوا رجال الدين وسلطانهم معلنين رسالة المسيح، بل شخص المسيح بكل جرأة وشجاعة، وهاجموا العالم الشرير المحيط بهم ليس بروح عدائية ولا بكراهية ولكن بمحبة المسيح. وفي الواقع، وقف التلاميذ موقفًا دفاعيًا مفعمًا بالثقة في الردّ على مزاعم أعداء المسيحية، كما اتخذوا مواقف هجومية ضد الخطية والفساد المستشري، فكلمة الكرازة كانت كسيف ذي حدين للدفاع والهجوم في آن واحد. وفي هذين الموقفين كان المسيح هو جوهر الدعوة، ومنارة البشارة. يتحدث بولس الرسول في رسالته إلى أهل أفسس عن مختلف الأسلحة الروحية ومن جملتها أسلحة الهجوم ومنها سيف الروح، أي كلمة الله.
إن الكنيسة لا تستخدم القوة البشرية، وجرأتها ليست نابعة عن التعصب الديني أو الطائفية، بل عن إحساسها العميق بمسؤوليتها، بل إرساليتها التي عهد بها إليها المسيح وهي "لأنه هكذا أحبّ الله العالم...». إن تنديد الكنيسة بالخطيئة هو تنديد محبة وشوق خالص لافتداء النفوس الهالكة، وليس من حقها أن تستعين بالسلطات الزمنية لفرض عقائدها وإيمانها، إنما تحقق ذلك بالممارسة في السلوك والمحبة. ولكن على الكنيسة أن تكون قوية لتدافع عنها وتهاجم روحيًا معاقل الخطيئة لأن "مصارعتنا ليست مع دمٍ ولحم بل مع الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية في السماويات" (أفسس 12:6). بمعنى آخر، إن مصارعتنا هي مع قوى الشر الروحية التي تكتسح العالم.
كانت الكنيسة الأولى جريئة على الرغم من الاضطهاد والاستشهاد، فأعربت عن جرأتها في مواقف التحدّي الروحية وانتصرت. إن حاجة الكنيسة اليوم إلى مثل هذه الجرأة.

رابعًا: الثبات

هتف بطرس في مواجهته التاريخية في محضر السلطات الدينية اليهودية قائلاً: «إن كان حقًّا أمام الله أن نسمع لكم أكثر من الله فاحكموا» (أعمال 20:4). واستطرد: «لأننا نحن لا يمكننا أن لا نتكلم بما رأينا وسمعنا» (ع 21).
لم يؤثر الجلد والسجن والتهديد على إيمان الرسل ومواقفهم، بل إن النكبات، والصعوبات، والضيقات عجزت عن تغيير موقف الكنيسة الأولى؛ ويقول الكتاب المقدس أنهم استمروا "يتكلمون بكلام الله بمجاهرة" (ع 31). لقد ثبتت الكنيسة الأولى في إيمانها لأنه كان مبنيًا على الصخر، وذهب شهداؤها إلى الموت من غير خوف أو فزع، فنمت الكنيسة، وازدهرت، وانقرضت أمام جحافلها الروحية إمبراطورية روما، لأن في الثبات نمو، وقد وعد المسيح أن يبني كنيسته على صخرة الإيمان به.
لشد ما تحتاج الكنيسة اليوم إلى هذه المقوّمات الأربعة لتكون فاعلة في دعوتها وتهزّ المسكونة.