الرئيسية

Labib80x103تدق أجراس عيد الميلاد فتحمل في رنينها العذب ذكرى بشرى السماء لسكان الأرض بميلاد المسيح المخلّص.
ومنذ ولد المسيح في بيت لحم اليهودية، وهو موضوع اهتمام الكثيرين، فعظمة شخصه، وسمو صفاته، وحكمة تصرفاته ومعجزاته الكبرى التي أجراها ليشفي جراح القلوب والأجساد، كل هذه النواحي في المسيح تدفع المرء أن يتساءل: من هو المسيح؟ هل كان مجرد إنسان فذّ ظهر في دنيا الناس؟ أم كان نبيًا جليلًا أرسله الله لهداية المنحرفين؟ أم هو أكبر من نبي، وأعظم من إنسان، وأعلى من السماوات؟

ولكي نجيب عن هذه الأسئلة ينبغي أن نتحدّث عن التجسد في الأديان، فتجسد الآلهة في صورة بشر لم يكن شيئًا غريبًا في الأديان القديمة، ولا هو شيء غريب في أي دين من الأديان... ذلك لأن الإنسان يستجيب للأشياء بمقدار ما يراها، وغير المرئي أقل في وعيه درجة مع أنه يملأ السماوات والأرض، لذا فإن الله جلّت قدرته أرسل المسيح ابنه الوحيد متجسدًا في صورة إنسان ليرى الناس فيه صورته وقدرته، وهذا ما قاله كاتب الرسالة إلى العبرانيين: "اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيمًا، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُق كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ، الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثًا لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي بِهِ أَيْضًا عَمِلَ الْعَالَمِينَ، الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيرًا لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي" (عبرانيين 1:1-3).
هذا يقودنا للحديث عن التجسد في كل الديانات الوثنية والسماوية:

التجسد في الديانات الوثنية

التجسد في الديانات الوثنية أمر شائع ومقبول، وفي اعتقادنا أن الإنسان في حيرته وهو يبحث عن الله، كان يتوق إلى أن يتجسد الإله الذي يعبده ليراه الناس، ويسمعوه، ويدركوا بحواسهم صفاته، ولذا فإن التجسد في الديانات الوثنية كان مقبولًا، ونحن نجد هذا الأمر في الأصحاح الرابع عشر من سفر أعمال الرسل إذ نقرأ عن زيارة بولس وسيلا لمدينة لسترة في هذه الكلمات: "وَكَانَ يَجْلِسُ فِي لِسْتْرَةَ رَجُلٌ عَاجِزُ الرِّجْلَيْنِ مُقْعَدٌ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ، وَلَمْ يَمْشِ قَطُّ. هذَا كَانَ يَسْمَعُ بُولُسَ يَتَكَلَّمُ، فَشَخَصَ إِلَيْهِ، وَإِذْ رَأَى أَنَّ لَهُ إِيمَانًا لِيُشْفَى، قَالَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: «قُمْ عَلَى رِجْلَيْكَ مُنْتَصِبًا!». فَوَثَبَ وَصَارَ يَمْشِي. فَالْجُمُوعُ لَمَّا رَأَوْا مَا فَعَلَ بُولُسُ، رَفَعُوا صَوْتَهُمْ بِلُغَةِ لِيكَأُونِيَّةَ قَائِلِينَ: «إِنَّ الآلِهَةَ تَشَبَّهُوا بِالنَّاسِ وَنَزَلُوا إِلَيْنَا». فكانوا يدعون برنابا زفس وبولس هرمس (وهما إلهان كانوا يعبدونهما)" (أعمال 8:14-11). فالإيمان بإمكانية نزول الآلهة من السماء، وتشبههم بالناس، وزيارتهم لسكان الأرض كان أمرًا مقبولًا عند الوثنيين حتى أن سكان لسترة إذ رأوا معجزة شفاء الرجل المقعد من بطن أمه ظنوا أن بولس وسيلا إلهان متجسدان؟ "فأتى كاهن زفس بثيران وكان يريد أن يذبح لهما" (أعمال 13:14).

التجسد في الديانة اليهودية

لما تأسست الديانة اليهودية كدين سماوي، ظهر الله فيها بصورة لا مثيل لها في الأديان الوثنية، والعهد القديم يعلن لنا أن الله أزلي الوجود، وأزلي الصفات، وأزلي التدبيرات. يقول عنه موسى النبي: "مُنْذُ الأَزَلِ إِلَى الأَبَدِ أَنْتَ اللهُ" (مزمور 2:90).
والتجسد في اليهودية عقيدة مقبولة، وقد ظهر الله مرارًا في العهد القديم... ظهر لإبراهيم: "وَظَهَرَ لَهُ الرَّبُّ عِنْدَ بَلُّوطَاتِ مَمْرَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي بَابِ الْخَيْمَةِ وَقْتَ حَرِّ النَّهَارِ، فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا ثَلاَثَةُ رِجَال وَاقِفُونَ لَدَيْهِ. فَلَمَّا نَظَرَ رَكَضَ لاسْتِقْبَالِهِمْ مِنْ بَابِ الْخَيْمَةِ وَسَجَدَ إِلَى الأَرْضِ" (تكوين 1:18-2). والقصة ترينا أن الله ظهر لإبراهيم في صورة إنسان وتحدث إليه حديثًا طويلًا بخصوص شرّ سدوم ودينونتها، فالتجسد ليس غريبًا على اليهودية، ويتعدد ظهور الرب مرارًا كثيرة في العهد القديم. لذا ينادي إشعياء النبي قائلًا: "ليتك تشقّ السماوات وتنزل" (إشعياء 1:64). فهو يتمنى أن ينزل الرب من السماء، ويقينًا إن نزول الرب يستلزم أن يأخذ صورة إنسان ليتفاهم مع الإنسان.

التجسد في الديانة المسيحية

المسيحية تؤمن بالتجسد، وتعتبره الأسلوب الوحيد الذي به أعلن الله ذاته للإنسان.
المسيحية تؤمن أن الله واحد، وهو تبارك وتعالى، لكي يكون مستغنيًا بذاته عن مخلوقاته، يتحتم أن يكون جامعًا في وحدانيته، وهو أمر فوق العقل، لكنه ليس ضد العقل، ولا بد أن نعترف أنه ليس في قدرة العقل البشري إدراك حقيقة الذات الإلهية، فمن غير الممكن أن نضع مياه المحيط في كوب، ولذا قال أليهو لأيوب: "القدير لا ندركه" (أيوب 27:37). لكن الإيمان بوحدانية الله الجامعة يعطينا صورة بهية للإله الأزلي الأبدي، الذي أعلن المسيح حقيقته حين قال لتلاميذه: "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" (متى 19:28). وقوله “باسم” وليس بأسماء يعلن وحدانية الله الجامعة.
وفي ملء الزمان، حين صار الوقت ملائمًا لتجسد المسيح، “الله الابن”، وُلد يسوع من مريم العذراء، وصار في شبه الناس.
وهنا لا بد لنا أن نذكر أن الله الآب لم يره أحد قط (يوحنا 18:1)، ولم يسمع أحد صوته (يوحنا 37:5). كان المسيح “الله الابن” هو الذي ظهر في كل مناسبات العهد القديم. وفي شخصه المبارك، رأى الناس الآب وعرفوه وعرفوا الطريق إليه كما قال المسيح لتوما: "أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي.  لو كنتم قد عرفتموني لعرفتم أبي أيضًا. ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه" (يوحنا 6:14-7). ولما قال له فيلبس "يا سيد، أرنا الآب وكفانا"، قال له يسوع: "أنا معكم زمانًا هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس. الذي رآني فقد رأى الآب. فكيف تقول أنت أرنا الآب. ألست تؤمن أني أنا في الآب والآب فيّ؟" (يوحنا 9:14).
هذا هو المسيح وليد بيت لحم، الذي نذكر اليوم ميلاده، وتُدقّ من أجله الأجراس، وتُعزف في ذكرى عيد ميلاده أعذب الترانيم. بل هذا هو المسيح ابن الله الأزلي الذي بعدما أخلى نفسه آخذًا صورة عبد، وصار في شبه الناس، ووُجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب، ليدفع أجرة خطايا المؤمنين به، ويعلن لنا مدى الحب الكبير الذي أحبّ الله به الذين يؤمنون بابنه.

التجسد في الديانة الإسلامية

القرآن، كتاب المسلمين الكريم جسّد الله.

قال القرآن في سورة الرحمن: "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ"  (سورة الرحمن 26:55-27).
وقال في سورة القصص: "وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" (سورة القصص 88:28).

فقال في سورة المائدة: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ (مقبوضة عن العطاء بخلًا) غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا. بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ" (سورة المائدة 64:5).

فقال في سورة المؤمنون: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ... فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا... فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" (سورة المؤمنون 23:23 و27-28).

فقال في سورة النساء: "وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا" (سورة النساء 164:4).
وقال في سورة الأعراف: "فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ  وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ" (الأعراف 22:7).

فقال في سورة الأعراف: "قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ. وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ" (سورة الأعراف 144:7-145).

فقال في سورة يونس: "إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ" (سورة يونس 3:10).
والآن بعد كل هذه الآيات القرآنية التي جسدت الله، فأعطته وجهًا، ويدين، وعينين، وأصابع كتب بها على الألواح، وكلامًا، وصوتًا، وأجلسته على العرش، فكيف يتصوّر قارئ هذه الآيات الله؟
إن الإنسان ليس في قدرته أن يتصوّر من هو أعلى منه، وبالتالي نقول إن هذه الآيات تصوّر الله متجسدًا في صورة إنسان.
وهنا يردّ المسلم قائلًا: هذه الآيات مجازية ولا نأخذها بحرفيتها، وبهذا يظل الله تعالت قدرته في ذهن المسلم إلهًا غير معروف.
أما المسيحية فإن كتابها المقدس يعلن أن ابن الله يسوع المسيح الموجود منذ الأزل مع الآب والروح القدس في وحدانية جامعة، تجسد في الزمان ليكمّل بتجسده التدبير الإلهي الأزلي لخلاص الإنسان الأثيم، وهو التدبير الذي تكلم عنه بطرس الرسول فقال: "عَالِمِينَ أَنَّكُمُ افْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ الآبَاءِ، بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَل بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ الْمَسِيحِ، مَعْرُوفًا سَابِقًا قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، وَلكِنْ قَدْ أُظْهِرَ فِي الأَزْمِنَةِ الأَخِيرَةِ مِنْ أَجْلِكُمْ" (1بطرس 18:1-20).
وفي ذكرى عيد الميلاد، نقدم المسيح وليد بيت لحم، الذي مات على الصليب وقام بعد ثلاثة أيام، لكل إنسان مثقل بالذنوب والآثام ليؤمن به، ويتأكد أنه "لَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ الْخَلاَصُ. لأَنْ لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ تَحْتَ السَّمَاءِ، قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ، بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ" (أعمال 12:4). ويعرف أن أعماله الصالحة لا يمكن أن تخلصه، لأنه لو كان بإمكان الإنسان أن يخلص بأعماله الصالحة فإن المسيح إذا مات بلا سبب.
إن موت المسيح على الصليب هو الطريق الوحيد لخلاص الإنسان من غضب الله وسلطان الشيطان وسلطان الخطية والحياة في الظلمات.
 وليتيقّن كل واحد أن "الَّذِي يُؤْمِنُ بِالابْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالابْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ اللهِ" (يوحنا 36:3).