الرئيسية

Munir Faragalla 80x105لأعرفه جيدًا عليَّ أن أرجع إلى بداية حياته. إلا أن حياته لم تبدأ يوم ميلاده الذي يحتفل به العالم هذه الأيام. كان وجوده قبل ذلك بكثير. حياة يسوع المسيح كانت منذ البدء. كانت قبل أن يكون زمان. في البدء كان. كان الكلمة، والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله. قبل أن يكون شيء. كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان. المسيح كائن قبل أن يكون الكون. موجود قبل أن يوجد الوجود. قائم منذ الأزل.


في البدء خلق الله السماوات والأرض. قال الله: ليكن نور، فكان النور. وتتابعت كلمة الله وهو يخلق الأرض، والبحار، والنبات، والشمس، والقمر، والحيوان، والطير، والأسماك. ثم خلق الإنسان على صورته ليتسلط على ما خلق. هذا كان تدبير الله وخطته للخلق. لكن الإنسان سقط وعصى الله وطرد من الجنة إلى الأرض التي جبل منها ليعمل فيها ويعاني من شوكها وحسكها.
لم يكن في قصد الله أن ينتهي الإنسان هكذا، بل كان أن تخلص الخليقة بالمسيح. لهذا كان المسيح يُعدّ نفسه للتجسد ليدفع ثمن خطية الإنسان، ويفدي البشرية من العقاب الإلهي، ويعود العالم إلى الصورة الأولى التي أعدها ورسمها الله له. وعلى مدى الأجيال كان الله يعلن عن ذاته وقصده في ضمير الإنسان وفي الخليقة بتنوعاتها وبأنبيائه الذين تتابعوا الواحد بعد الآخر حاملين كلام الله للإنسان الذي استمر في غيّه وبُعده عن الله حتى توقف عن إرسال رسله وأنبيائه. توالت القرون وتحرّك الزمن ببطء ثقيل والله صامت بعيد عن الإنسان. سكوت، وصمت، وظلام وتيه وضياع... استشرى الشر، وسادت الخطية، وزاد عصيان الإنسان، وامتلأت الأرض فسادًا. تعاقبت الأجيال المظلمة والعالم يترقب وينتظر تدخّل الله. ورغم قسوة الانتظار وتأخر الإنسان كان الله معنيًّا بما يسود العالم من شرور وآثام. كان ينسج خطته للفداء، ورفع لعنة العقاب، وتحمّل حكم القصاص؛ رغم السكون الظاهري كان الله يُعدّ خطته بتدقيق وإحكام. مجيء المسيح إلى العالم لم يكن حادثًا طارئًا. وتجسده إنسانًا لم يكن حدثًا عفويًّا مفاجئًا، بل كان الله يصوغ التاريخ صياغة خاصة لذلك المجيء ويهيئ العالم ويعدّه إعدادًا لازمًا لاستقبال المسيح.



حسب تحليل الدكتور Peterson Smith كان العالم خاضعًا لثلاث قوى تتحكم فيه. الرومان بقوتهم العسكرية، واليونان بعلومهم وثقافتهم، واليهود بمفاهيمهم الروحية وتقاليدهم الدينية. ولإعداد الطريق أمام القادم من عالم الأزل، كان يتحتم أن تتجمع الدويلات والشعوب الصغيرة في كيان واحد كبير، وهذا ما حققه الرومان بانتصاراتهم وتكوين الإمبراطورية الرومانية المتحدة. تعدد اللغات، وتباين اللهجات كان عائقًا للاتصال وانتقال المعلومات بين أركان العالم، لكن عند اقتراب موعد مجيء المسيح، نشط اليونان وانتشرت لغتهم وأصبحت لغة العالم الرسمية. أما اليهود فكانوا منعزلين متقوقعين على أنفسهم، محافظين على التعاليم الروحية والنبوات القديمة عن مجيء المسيا الذي ينتظرونه على مدى الأجيال. ثم كان السبي وتشتت اليهود في دول العالم حاملين عقائدهم وأسفارهم المقدسة إلى الدول الوثنية، وتم ترجمة كتاب التوراة العبري إلى اللغة اليونانية المفهومة لشعوب العالم كله في ذلك الوقت. وهكذا اتحدت القوى المؤثرة الثلاث لإعداد الطريق لمجيء المسيح. لم يكن ذلك كله صدفة، لكن بيد إلهية قادرة أن تصوغ الأحداث وتحركها لتتحقق مشيئته ويتم تدبيره. ثم، لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه... الكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا... الله ظهر في الجسد... الله جاء بنفسه إلى الأرض في هيئة بشرية.



كان في الإمكان والمناسب واللائق بجلال الله ومكانته وقدرته وعظمته، ولأهمية الحدث، وطول الانتظار، وصعوبة الترقب، أن تنفتح السماء بشكل معجزي وتصطف الكواكب، وتتجمّع الأفلاك، وتتزاحم النجوم، وينزل جند السماء في مشهد خارق مهيب، وتصدح الأبواق، وتعلن وصول المسيا جالسًا على عرشه. وينزل في كل بهائه وجلاله ومجده وعظمته وسط هتاف الملائكة وصياح البشر... كل البشر وعيونهم تتابع نزوله إلى الأرض... لكن الله في تعامله العادي اليومي معنا عند شروق الشمس في الصباح يحقق معجزة خارقة حين يشقّ النبات سطح الأرض ليعطي ثمارًا دائمة، وتدب الحرارة في مياه المحيطات فتصعد الأبخرة إلى أعلى تكوّن السحاب الذي يتجمع ثم ينهمر مطرًا يروي ويجري في أنهار تملأ الكون خيرًا وخصبًا وحياة. معجزات الله الخارقة تتم في بساطة وسلام وبشكل طبيعي. جاء المسيح مولودًا من امرأة شأن كل إنسان يولد من امرأة.



وأعدّ الله امرأة. عذراء صغيرة في الناصرة لتتحقق النبوّة: "ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا". أُرسل جبرائيل الملاك من الله إليها:
- سلام لكِ أيتها المنعم عليها! الرب معك. مباركة أنت في النساء.
لم يكن الأمر مفهومًا لمريم، فسألته:
- كيف يكون هذا وأنا لا أعرف رجلًا؟
ولكن كان كل شيء معدًّا لذلك.
- الروح القدس يحلّ عليك وقوة العليّ تظللك، فلذلك أيضًا القدوس المولود منكِ يُدعى ابن الله.
وفي مواجهة مشكلة يوسف خطيبها الذي كان يريد تخليتها سرًّا، تدخّل الإعداد الإلهي. وظهر له ملاك الرب في حلم مفسّرًا له أن هذا كله كان تحقيقًا لما تنبّأ به الأنبياء.
ويتم كل شيء حسب ما سبق وما خططه الله منذ القدم. تحركت مريم ويوسف من الناصرة إلى بيت لحم بعد أن صدر أمر من أوغسطس قيصر بأن يكتتب كل المسكونة، وصعد يوسف إلى مدينة بيت لحم، وهناك ولدت ابنها وقمطته وأضجعته في المذود. وتمت خطة الله ونبوة الأنبياء: "وأنتِ يا بيت لحم، أرض يهوذا لستِ الصغرى بين رؤساء يهوذا لأن منك يخرج مدبّر يرعى شعبي إسرائيل".
كل شيء كان معدًّا مسبقًا. ظهور ملاك الرب للرعاة وتبشيرهم:
- ها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب أنه وُلد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب.
ثم ظهور الجند السماوي وتسبيحهم:
- المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة.
وبعد ذلك بوقت قليل كان ظهور النجم في المشرق يعلن مولد ملك اليهود ويقود المجوس إلى أورشليم... إعداد دقيق منذ البدء وتحقيق في ملء الزمان.



عزيزي... عزيزتي...
لسنا مخلوقين بلا هدف، ولا نعيش بدون خطة. إن الله ممسك بالماضي والحاضر والمستقبل. كل خيوط حياتنا بين أصابعه. اختارنا فيه قبل تأسيس العالم. سبق فعيّننا للتبني بيسوع المسيح لنفسه، حسب مسرة مشيئته. الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا حسب غنى نعمته، التي أجزلها لنا بكل حكمة وفطنة، إذ عرفنا بسر مشيئته، حسب مسرته التي قصدها في نفسه، لتدبير ملء الأزمنة ليجمع كل شيء في المسيح.
هل هناك أعظم وأروع من أن نعيش في نطاق خطة المسيح لحياتنا؟! هذه الحقيقة تملأ قلوبنا بالراحة والطمأنينة. كل شيء معدّ ومخطط لنا منذ القديم... القديم جدًا... استرحْ واسترخِ ولا تقلق مهما ارتفعت الأمواج، واشتدّت العواصف. ألقِ عليه كل شيء، وارتمِ بين ذراعيه. لا صُدف ولا مفاجآت في حياتك... هو هو... لا تخف! كل شيء معمول حسابه بدقة تامة.
الرب معك.