الرئيسية

يحدثنا الكتاب المقدس أن بريسكلا ربحت المبشّرَ العظيم أبلّوس، وشرحت له مع زوجها طريقَ الرب بأكثر تدقيق، وكانت النتيجة أن صار أبلّوس يجاهر بالمسيح، وذاع صيته بسبب خدمته الواسعة.


وفي سورية، عاشت في القرن التاسع عشر، سيّدة مؤمنة اسمها سعّودة وهي مثل بريسكلا في تمييزها الروحيّ وفهمها. رأت سعّودة شابًا اسمه حنّا يكرّر الصلاة الربانية ولا يعي ما يقوله بل يردّدها كالببغاء مثلما يفعل كثيرون. وعندها تحدّثت معه، وشرحت له معنى الصلاة الربانية، ولا سيما الكلمة المباركة الأولى فيها “أبانا”. مضت سعّودة تخبر حنا بأن الله أبونا، ونحن أولاده بالتبني بالمسيح يسوع.
ومثلما قبل أبلّوس التعليم وصار بركة لكثيرين، هكذا قَبِل حنّا ما تعلّمه، وصار كارزًا يشهد بالروح القدس عن عمل الله في حياته. وكما هو معتاد فإن اضطهاد المسيحيّ يبدأ عادة حالما يباشر في الشهادة والتبشير. هذا ما فعله حنّا فثارت ثائرة أهله وكنيسته، وقاوموه وضايقوه وأساؤوا معاملته. لم يتراجع حنا إلى الوراء بل ثبت في إيمانه، واحتمل الألم، وسار مع المسيح قدمًا فلقي مزيدًا من المقاومة والعذاب.
ثم انصبّت عليه الضيقات من الأتراك الطغاة عندما شنّوا اضطهادهم ضدّ السريان والأرمن. فلسببٍ ما حسبوا أن حنا أرمنيّ، وساقوه أسيرًا حتى أتوا به إلى منطقة الكرك في جنوب الأردن، وسكن هناك في مغارة مدة ثلاثين شهرًا.
لم يتخلَّ حنا عن إيمانه بل تمسّك به مثلما قال المسيح لملاك كنيسة سميرنا، “لاَ تَخَفِ الْبَتَّةَ مِمَّا أَنْتَ عَتِيدٌ أَنْ تَتَأَلَّمَ بِهِ... كُنْ أَمِينًا إِلَى الْمَوْتِ فَسَأُعْطِيكَ إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ» (رؤيا 10:2، 11). تعرَّض حنا للاستجوابات الكثيرة والتحقيق معه، واختبر عناية الآب السماويّ به في جميع آلامه في بعده عن أهله وذويه، كما هو مكتوب، «فِي كُلِّ ضِيقِهِمْ تَضَايَقَ، وَمَلاَكُ حَضْرَتِهِ خَلَّصَهُمْ. بِمَحَبَّتِهِ وَرَأْفَتِهِ هُوَ فَكَّهُمْ وَرَفَعَهُمْ وَحَمَلَهُمْ كُلَّ الأَيَّامِ الْقَدِيمَةِ” (إشعياء 9:63).
ثم أُفرِج عنه، وفي طريقه للّقاء بأهله مرّ بمدينة القدس لختم تحريره بزيارة قبر المسيح الفارغ. مشى على درب الصليب، وعيّد ذكرى القيامة في القدس في شهر أيار عام 1919.
 عاد حنا إلى بلدته التي أحبها، والتمّ شمل العائلة من جديد، وفرح لمّا رآهم أحياء وسالمين. تابع خدمته الكرازيّة في حقل اللاذقية مبتدئًا في قرية اللدينة وهي قرية متواضعة، واسمها يعني اللينة الوادعة. ومثلها كان الكارز فيها القس حنا، فقد كان وديعًا ولطيفًا يعامل الجميع وكأنهم أبناؤه وهو أبوهم الحنون. تميّز بحسن المحادثة والنباهة والجرأة.
وهبه الله صوتًا رخيمًا فاستخدمه لحمد الله والترنيم له. أكرمه الله بأن يتبع أهل بيته خطاه في الإيمان وخدمة المسيح، وكان يُسمَع صوت أغانيهم الروحية وترانيمهم من بعيد، فتمّ فيهم ما هو مكتوب، “صَوْتُ تَرَنُّمٍ وَخَلاَصٍ فِي خِيَامِ الصِّدِّيقِينَ” (مزمور 15:118). صار ابنه البكر إبراهيم قسًا إنجيليًا، وتبع معظمُ أولاده وأحفاده إيمانَه الصريح بالمسيح.
ذات مرة التقاه شبّان في الطريق وحاولوا أن يسخروا منه، وسأله أحدهم، “من خلق الله؟” فسأله القس حنا، “ما اسمك؟” أجاب الشاب، “عبد الحق”، فانتهره القس بقوله، “بئس العبد الشرير الرديء، اذهب غيّرْ اسمك أو غيّر أخلاقك. عيبٌ عليك”! فاعتذر الشباب منه وصاروا يتعاملون معه بعدها باحترام.
كان إيمان القس حنا مثل الصخر الذي بنى المسيح عليه كنيسته وأكّد أن أبواب الجحيم لن تقوى عليها. لم تكن له فرصة تعلّم اللاهوت في مدارس خاصة ولكنه خدم الله بأمانة وجرأة في وجه جميع التيارات المعاكسة.
عمل في بلدة طرسوس مدينة بولس الرسول ثم أكمل خدمته في اللاذقية وقراها حتى بلغ الثمانين، وبعد أن أكمل جهاده انتقل إلى الأمجاد تاركًا مثالًا يُحتذى به.
عن كتاب "مذكرات خادم" للواعظ مطانوس الجرجور، نقلته الدكتورة لميس جرجور بتصرف.