كانون الأول (ديسمبر) 2009

في تأملاتنا في ميلاد المسيح، يشدّ انتباهنا أحد أقوال يوحنا المعمدان عن الرب يسوع، هو قوله: ”اَلَّذِي يَأْتِي مِنْ فَوْقُ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ، وَالَّذِي مِنَ الأَرْضِ هُوَ أَرْضِيٌّ، وَمِنَ الأَرْضِ يَتَكَلَّمُ. اَلَّذِي يَأْتِي مِنَ السَّمَاءِ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ“ (يوحنا 31:3).


وفي هذا القول أعلن المعمدان أنه وغيره من الرسل والأنبياء من الأرض، فهُم أرضيون. أما المسيح فهو من فوق – من السماء، فهو سماوي فوق الجميع. ”فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ. هَذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ. فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ... وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً“. لن ننسى أصله الإلهي. ”وَأَمَّا عَنْ الابْنِ [فيقول]: كُرْسِيُّكَ يَا أَللهُ إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ“ (عبرانيين 8:1).
وقد شرح المسيح أصله الإلهي عندما اقتبس النبوة التي جاءت عنه في مطلع مزمور 1:110 ”قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ“. وذلك بعد أن وجَّه شيوخ اليهود إليه أربعة أسئلة:
1) سألوه سؤالاً شخصياً
عندما طهَّر الهيكل من الباعة والصيارفة سألوه: ”بأي سلطان تفعل هذا؟ ومن أعطاك هذا السلطان؟“. فأجاب أن يوحنا المعمدان، الذي كان كل اليهود يقبلونه كنبي شهد لسلطان المسيح السماوي (متى 23:21-27).
2) وسألوه سؤالاً سياسياً
”أيجوز أن تُعطى جزية لقيصر أم لا؟“ فأجاب أن الجزية يجب أن تُدفع، لأننا يجب أن نعطي ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، فنقوم بواجباتنا المدنية، وواجباتنا الروحية (متى 22: 17-21).
3) وسألوه سؤالاً عقائدياً
عن سيدة تزوجت سبع مرات، ومات أزواجها السبعة، وآخر الكل ماتت هي. فلأي زوج من السبعة تكون زوجةً في القيامة؟
فأجاب أنهم في القيامة لا يُزوِّجون ولا يتزوَّجون، بل يكونون كملائكة الله. وكان سائلوه من طائفة الصدوقيين الذين لا يؤمنون بالقيامة، فأكد المسيح لهم أن القيامة حقيقة، لأن الله يقول إنه إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وهو ليس إله أموات بل إله أحياء (متى 23:22-24).
4) وأخيراً سألوه سؤالاً روحياً
أية وصية هي العظمى في الناموس؟ فأجاب: ”تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك“ والوصية الثانية مثلها ”تحب قريبك كنفسك“ (متى 34:22-40).
وبعد إجابته عن الأسئلة الأربعة وجَّه هو إليهم سؤالاً: ”ماذا تظنون في المسيح؟ ابن من هو؟ فأجابوا: ابن داود“ (متى 42:22)، وهذا ما تقوله نبوات التوراة. فاقتبس فاتحة مزمور 110، وسألهم: ”فكيف يدعوه داود بالروح رباً قائلاً: قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك؟ فإن كان داود يدعوه رباً، فكيف يكون ابنه؟“... وصمت شيوخ اليهود ولم يقدروا أن يجاوبوه، لأن الإجابة الوحيدة هي أن المسيح ربي هو ابن داود بالجسد، وفي الوقت نفسه هو رب داود بالروح.
ويؤكد سؤال المسيح أن المزامير من وحي الروح القدس، ويوضِّح أن مضمون مزمور 110 لا يخصُّ ملكاً ولا كاهناً ولا نبياً من أصلٍ أرضي، بل موضوعه ”المسيا المخلِّص المنتظَر الآتي من السماء“ فهو أعظم من داود. وكان ملك اليهود من سبط يهوذا، ومن نسل داود، بينما كان كهنتهم من سبط لاوي ومن نسل هارون.. ومِن صمت شيوخ اليهود عن الإجابة على سؤال المسيح نستدل أن ما قاله المسيح هو التفسير الحقيقي للمزمور، والمقبول من كل طوائف اليهود. وقد اعتاد المسيح أن يثير سامعيه ليبحثوا الكتب المقدسة، فقال لهم مرة: ”فتِّشوا الكتب، لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية، وهي التي تشهد لي“ (يوحنا 39:5). وهي نصيحة لنا كلنا، لندرس الكتاب المقدس بأنفسنا، ونطلب من الذي أوحى به أن يفسِّر لنا معانيه، وأن يكشف لنا المستتر من كنوزه.
ونقول بيقين إن المسيح الذي تجسَّد إنساناً ووُلد من العذراء القديسة مريم هو ابن داود حسب الجسد، ولكنه في الوقت نفسه هو كلمة الله بحسب الروح. وما ورد في التوراة من نبوّات عن تجسُّده، وعن ألوهيته، وعن التثليث الإلهي ورد كامناً، ولكنه جاء في الإنجيل معلَناً، فقد قال المسيح: ”أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ. فَمِنْ أَجْلِ هذَا كَانَ الْيَهُودُ يَطْلُبُونَ أَكْثَرَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، لأَنَّهُ لَمْ يَنْقُضِ السَّبْتَ فَقَطْ، بَلْ قَالَ أَيْضًا إِنَّ اللهَ أَبُوهُ، مُعَادِلاً نَفْسَهُ بِاللهِ“ (يوحنا 17:5- 18). وقال المسيح أيضاً: ”الحقَّ الحق أقول لكم: قبل أن يكون إبراهيم أنا كائنٌ“. فأراد اليهود أن يرجموه لأنه أطلق على نفسه لقب ”الكائن“ أي الله الدائم الوجود (يوحنا 58:8-59).
وقيل عنه إنه عندما عادل نفسه بالله لم يكن مختلساً ما ليس من حقه (فيلبي 6:2).
وقيل: ”عظيمٌ هو سرُّ التقوى: الله ظهر في الجسد“ (1تيموثاوس 16:3).
وقيل: ”عَمَلِ شِدَّةِ قُوَّتِهِ [قوة الله] الَّذِي عَمِلَهُ فِي الْمَسِيحِ، إِذْ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ، وَأَجْلَسَهُ عَنْ يَمِينِهِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ، فَوْقَ كُلِّ رِيَاسَةٍ وَسُلْطَانٍ وَقُوَّةٍ وَسِيَادَةٍ، وَكُلِّ اسْمٍ يُسَمَّى لَيْسَ فِي هذَا الدَّهْرِ فَقَطْ بَلْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَيْضًا، وَأَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَإِيَّاهُ جَعَلَ رَأْسًا فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ... إِذْ صَعِدَ إِلَى الْعَلاَءِ سَبَى سَبْيًا وَأَعْطَى النَّاسَ عَطَايَا. وَأَمَّا أَنَّهُ صَعِدَ، فَمَا هُوَ إِلاَّ إِنَّهُ نَزَلَ أَيْضًا أَوَّلاً إِلَى أَقْسَامِ الأَرْضِ السُّفْلَى. اَلَّذِي نَزَلَ هُوَ الَّذِي صَعِدَ أَيْضًا فَوْقَ جَمِيعِ السَّمَاوَاتِ، لِكَيْ يَمْلأَ الْكُلَّ“ (أفسس 19:1-22 و8:4-10).
”فَإِذْ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ عَظِيمٌ قَدِ اجْتَازَ السَّمَاوَاتِ، يَسُوعُ ابْنُ اللهِ، فَلْنَتَمَسَّكْ بِالإِقْرَارِ. لأَنْ لَيْسَ لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ غَيْرُ قَادِرٍ أَنْ يَرْثِيَ لِضَعَفَاتِنَا، بَلْ مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ. فَلْنَتَقَدَّمْ بِثِقَةٍ إِلَى عَرْشِ النِّعْمَةِ لِكَيْ نَنَالَ رَحْمَةً وَنَجِدَ نِعْمَةً عَوْنًا فِي حِينِهِ“ (عبرانيين 14:4-16).
”الَّذِي هُوَ فِي يَمِينِ اللهِ، إِذْ قَدْ مَضَى إِلَى السَّمَاءِ، وَمَلاَئِكَةٌ وَسَلاَطِينُ وَقُوَّاتٌ مُخْضَعَةٌ لَهُ“ (1بطرس 22:3). وهذا يعني أن الرب قال لربي بعد أن أكمل عمل الفداء أن يجلس عن يمينه في مكان السلطة، حتى تجثو للمسيح كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن المسيح هو رب (فيلبي 10:2-11).
 
يعطينا الميلاد ”الذي من فوق“
قول المعمدان ”اَلَّذِي يَأْتِي مِنَ السَّمَاءِ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ“ يوجِّه أنظارنا إلى الرب يسوع الذي جاء من السماء، من فوق، ليرفعنا إلى فوق ويوحّدنا فيه، فنحيا في السماويات ونحن هنا على الأرض، ونهتف شاكرين ”مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ“ (أفسس 3:1). ”اَللهُ الَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا، وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ - بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ - وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ“ (أفسس 4:2-6).
 ويقارن المعمدان بين حالة الإنسان قبل أن ينال خلاص المسيح، وبينه بعد أن يخلص. فالإنسان قبل قبول الخلاص أرضي: ”اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ“ وقد جاء المسيح لينتشلنا من سيطرة الأرض والجسديات، ويرفعنا إلى آفاق جديدة معه، فنحيا في الجسد ولكن قلوبنا فوق ”الْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ“. نعتني بأجسادنا لأننا أصبحنا هيكل الروح القدس؛ فقد غيّر المسيح نظرتنا إلى الحياة، وغيّر نظرتنا إلى أجسادنا، وغيّر نظرتنا إلى البشر المحيطين بنا، وجعلنا مثله، من فوق.
 لقد جاءنا المسيح ابن الله الظاهر في الجسد ليرفعنا لنكون أبناء لله... لنا المجد كله، لأنه - له المجد - جاء إلى أرضنا، وأخلى نفسه من مجده، وبهذا أعطانا أن نكون شركاء المجد السماوي المتحدين معه إلى ذات الدرجة المباركة التي جاء هو منها.
يقدّم يوحنا الصورة الحقيقية لنفسه، فمع أن كثيرين جاءوا ليعتمدوا على يديه، قال: ”يَنْبَغِي أَنَّ ذلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ“. فالمجد كله للمسيح. فلتكن له الكلمة الأخيرة في حياتنا ”لِكَيْ يَكُونَ هُوَ مُتَقَدِّماً فِي كُلِّ شَيْءٍ“ (كولوسي 18:1) في قراراتنا وتفكيرنا ومعاملاتنا مع البشر.

المجموعة: 200912