شباط (فبراير) 2009

لم يشهد التاريخ البشري عصراً كعصرنا الحاضر، تتطاحن فيه الاتجاهات، وتتضارب فيه المذاهب والمبادئ. وكلٌّ ينادي بأفضلية طريقه وتفوّق مذهبه، طاعناً ما يخالف رأيه من عقائد الآخرين. وذلك إما عن طريق النقد الحر الصريح، أو بالوسائط السلبية المتحفّظة. وأحياناً يشتدّ التحدي وتزداد المهاجمات، فيضطرّ الفرقاء الالتجاء إلى وسائط لا شرعية، تخرجهم من دائرة المنطق السليم والآداب المفروضة.


من المؤسف حقاً، أن المسيحية في بعض الأماكن انزلقت أيضاً إلى هذا المستوى واشتركت في نفس العراك. حتى أننا أحياناً نستخدم ما يستخدمه أهل العالم، من عبارات التحدّي، ووسائط التشهير، واساليب العنف والتهديد.
والحق يُقال، أن المسيحية الحقة لا يحتاج نشرها وتطبيقها لمثل هذه الوسائل، إذ أنها لم تقم على السيف والعنف والكراهية، بل على المحبة والعطف والحنان. فكيف يجوز لنا إذاً، أن ندافع عن مسيحيتنا بطرق لا مسيحية؟! وقد صدق في هذا قول الشاعر، مخاطباً المُدافع عن المسيحية بوسائط العنف والقوة، مظهراً له خروجه عن المبدأ المسيحي بقوله:
يا فاتح القدس خلِّ السيف ناحية ليس الصليب حديداً كان بل خشبا
فيسوعنا الأسد الغالب المنتصر، قد لُقِّب بالحمل الوديع المتواضع. وهو الذي تنبّأ عنه إشعياء قائلاً: "هُوَذَا فَتَايَ الَّذِي اخْتَرْتُهُ، حَبِيبِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. أَضَعُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْبِرُ الأُمَمَ بِالْحَقِّ. لاَ يُخَاصِمُ وَلاَ يَصِيحُ، وَلاَ يَسْمَعُ أَحَدٌ فِي الشَّوَارِعِ صَوْتَهُ. قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لاَ يُطْفِئُ، حَتَّى يُخْرِجَ الْحَقَّ إِلَى النُّصْرَةِ. وَعَلَى اسْمِهِ يَكُونُ رَجَاءُ الأُمَمِ".
فيسوعنا، بالصليب - رمز الضعف والهوان - جرّد الرياسات والسلاطين ظافراً بهم فيه! ودعوته الصريحة هي: "إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي، فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَتْبَعْنِي". فحمل الصليب يتطلب أولاً إنكار الذات! وإنكار الذات يسهّل علينا حمل الصليب دون تكلّف أو عناء، لنتبع خطوات من أخلى نفسه... وأطاع حتى الموت موت الصليب.
فتعال معي، عزيزي القارئ، نطرح جانباً التهديدات والتحديات والمهاترات الضعيفة، لنظهر تفوّق مبادئنا المسيحية بالنتائج الحياتية المسلكية، علماً منا أن العقيدة الصحيحة تُظهر ذاتها بالأعمال الصالحة. فكما أن الشجرة الردية لا تقدر أن تصنع ثمراً جيداً، هكذا الشجرة الجيدة لا تقدر أن تصنع أثماراً درية، فمن ثمارهم تعرفونهم! لذا "يَقُولُ قَائِلٌ: أَنْتَ لَكَ إِيمَانٌ، وَأَنَا لِي أَعْمَالٌ. أَرِنِي إِيمَانَكَ بِدُونِ أَعْمَالِكَ، وَأَنَا أُرِيكَ بِأَعْمَالِي إِيمَانِي".
فالمسيحية الصحيحة تتمثّل في وجهين:
1- وجه يمثّل العلاقة الروحية القلبية بين الإنسان المؤمن والله مصدر القداسة والكمال؛ هذه العلاقة التي لا يستطيع أحد استكشافها ومراقبتها، كما لا يستطيع سبر غورها وإدراك مداها سوى الله وصاحب العلاقة نفسه.
2- أما الوجه الثاني فيتمثّل بالأثمار الحياتية والنتائج المسلكية، التي تعكس سريرة الإنسان وما يضمره في قرارة إنسانه الباطني. هذا الوجه يقرر في نظر الآخرين سلامة مبادئنا، وصدق إيماننا، ومدى مستوانا الروحي.
قد نجتاز أحياناً في حالات مرة وقاسية، نفقد فيها وعْينا الروحي واتزاننا الإيماني. فنتحدر من المستوى السامي الذي رفعنا الله إليه، لنتصرف بما يمليه علينا الجسد بنزعاته وميوله، التي لا تتفق مع مشيئة الله، ولا تتناسب مع مقامنا الرفيع. هذه حالات اضطراب غير طبيعية.
يجب أن ندرك سريعاً خطورة استمرارها في حياتنا، ونستعين بإلهنا القدير لينقذنا منها قبل أن تشوّه شهادتنا المسيحية وتحطم مستقبلنا الروحي.
والأوقات الثمينة التي نضيعها عبثاً بالدفاع عن نفوسنا، ورد التهم الموجهة إلينا باطلاً من البشر، أولى بنا أن نحوّلها لفرص صلاة وتعبّد، نطرح خلالها صعوباتنا وتجاربنا بين يدي إلهنا الحبيب متمسكين بنصيحة الرسول: "لاَ تَهْتَمُّوا بِشَيْءٍ، بَلْ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِالصَّلاَةِ وَالدُّعَاءِ مَعَ الشُّكْرِ، لِتُعْلَمْ طِلْبَاتُكُمْ لَدَى اللهِ". والأثمار المسلكية الصالحة التي يظهرها الله في حياتنا، تجعل الذي يشتمون سيرتنا الصالحة في المسيح يخزون فيما يفترون... بينما سلام الله الذي يفوق كل عقل يحفظ قلوبنا وافكارنا في المسيح يسوع.
أين مركز الذات في حياتك؟ هل على الصليب ويسوع على جبل التجلي؟! أم ذاتك على جبل التجلي ويسوع على الصليب؟!

المجموعة: 200902