حزيران (يونيو) 2009

أُخذ حزقيال بن بوزي، الشاب المنحدر من عشيرة كهنوتية، في سبي يهوذا المسمّى سبي يهوياكين إلى بابل في عام 597 ق.م. وعاش هناك بين المسبيين عند نهر خابور. وقد بدأت خدمته النبوية بعد سبيه بخمس سنوات إذ كان في الثلاثين من عمره ودامت حوالي 22 سنة. ويُعتبر من الأنبياء الكبار إذ كانت نبواته ذات أثر مشهود في حياة الشعب.


في رؤياه الأولى رأى حزقيال الله وهو يغادر هيكل أورشليم لأن الشعب هناك كان يدنّس الهيكل بعبادته الوثنية وينجّس الاسم القدوس. وهكذا تم خراب ذلك الهيكل بعد تلك النبوة بسبع سنوات، ولكن في السنة الخامسة والعشرين من بدء سبيه عاد فرأى الله عائداً إلى هيكله الجديد ورأى مجده مالئاً كل البيت وسمعه يقول: ”هذَا مَكَانُ كُرْسِيِّي وَمَكَانُ بَاطِنِ قَدَمَيَّ حَيْثُ أَسْكُنُ فِي وَسْطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الأَبَدِ“ (حزقيال 7:43). فإلى أي هيكل كانت رؤياه الأخيرة ترمز، ونحن نعلم أن الهيكل دُمّر بصورة كاملة ونهائية في سنة 70 ميلادية على يد تيطس الروماني ولم يعد يظهر مجد الله فيه منذ حوالي ألفي سنة مضت وحتى الآن؟!
لقد كانت نبوات حزقيال الأخيرة نبوات رمزية متفقة كل الاتفاق مع رؤيا يوحنا اللاهوتي وفي كثير من الصور: كالمدينة المربعة التي لها اثنا عشر باباً، ونهر الحياة الذي ينبع من المقدس، وكيف ستُشفى المياه المالحة والمرّة... والأشجار التي على جانبَي النهر التي تعطي ثمرها كل شهر وورقها للشفاء، وغيرها كثير. ونحن نعلم أن رموز سفر الرؤيا تشير إلى آخر الأيام ومُلك المسيح الروحي، أو ”كنيسة المسيح“... ذلك الملكوت غير المحدود بالزمان ولا بالمكان، فلو أخذنا الرؤيا الثانية لحزقيال إشارة لرجوع الله إلى هيكل حجري لوجدنا أنفسنا امام تناقض كبير جداً حيث أن الهيكل الحجري الذي بُني فيما بعد أصبح خراباً بعد سنة 70 م ولم يدم سكن الله فيه إلى الأبد!
فقد رُفض الهيكل الحجري حسب نبوة إشعياء لعدم نفعه. ”هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: السَّمَاوَاتُ كُرْسِيِّي، وَالأَرْضُ مَوْطِئُ قَدَمَيَّ. أَيْنَ الْبَيْتُ الَّذِي تَبْنُونَ لِي؟ وَأَيْنَ مَكَانُ رَاحَتِي؟“ (إشعياء 1:66). وقد أُبطلت ممارسات العبادة فيه: ”مَنْ يَذْبَحُ ثَوْرًا فَهُوَ قَاتِلُ إِنْسَانٍ. مَنْ يَذْبَحُ شَاةً فَهُوَ نَاحِرُ كَلْبٍ. مَنْ يُصْعِدُ تَقْدِمَةً يُصْعِدُ دَمَ خِنْزِيرٍ. مَنْ أَحْرَقَ لُبَانًا فَهُوَ مُبَارِكٌ وَثَنًا“ (إشعياء 3:66). فإذا كان الهيكل الحجري وممارسات العبادة فيه تمثل العبادة الحقيقية لله فيكون الله بما سبق فتكلم به قد ألغى عبادة البشر له ورفضها رفضاً تاماً! ولكننا نرى التحوّل واضحاً في آيات الكتاب المقدس، فإن فيها نقلة نوعية للعبادة في منحى آخر: ففي خطاب استفانوس المدوّن في سفر الأعمال نرى شهيد المسيح الأول يستشهد بنبوّة إشعياء: ”لكِنَّ الْعَلِيَّ لاَ يَسْكُنُ فِي هَيَاكِلَ مَصْنُوعَاتِ الأَيَادِي، كَمَا يَقُولُ النَّبِيُّ“ (أعمال 48:7). وبولس الرسول يثنّي على ذلك بقوله بالروح القدس: ”فَإِنَّكُمْ أَنْتُمْ هَيْكَلُ اللهِ الْحَيِّ، كَمَا قَالَ اللهُ: إِنِّي سَأَسْكُنُ فِيهِمْ وَأَسِيرُ بَيْنَهُمْ، وَأَكُونُ لَهُمْ إِلهًا، وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْبًا“ (2كورنثوس 16:6). ومع آيات أخرى كثيرة تبين لنا أن الهيكل الحقيقي هو الشخص المطهّر بدم المسيح على الصعيد الفردي، والكنيسة أو جماعة المؤمنين الذين يحبون الرب ويعبدونه بقداسة وتقوى على الصعيد الجماعي. فهذا هو الهيكل الذي يُسرّ الله أن يسكن فيه للأبد وله شروط هي في مجملها تبين أن الهيكل الحقيقي هو بناء النعمة الذي لا يفنى:
1- أن يكون الهيكل نظيفاً والمكان مقدساً إشارة لطهارة حياة المؤمن المغسول بدم المسيح ونقاوة تعليم الكنيسة وبُعده عن الهرطقات والبدع المهلكة.
2- أن يكون الهيكل مخصصاً أي مكرساً للرب وهذا يشير إلى تكريس المؤمن أو الكنيسة للتبعيّة للرب ولغاية خدمته وليس لأية غاية أخرى مادية أو معنوية.
3- أن يسكن الله فيه إشارة لسكن الروح القدس في المؤمن المكرس وفي جماعة المؤمنين مانحاً لهم القوة لكي يقاوموا الشر ويحرزوا النصرة على أعمال إبليس وتجاربه ويحققوا المعجزات بواسطة عمل الروح فيهم.
±  وإذا تقدّمنا قليلاً للتأمل في صورة الهيكل ومدلولاتها - كما رآها حزقيال - فإننا سندرك ما يلي:
أولاً: كانت مياه ضئيلة تخرج من تحت عتبة البيت. فلم تخرج المياه من السقف ولا من الجدار، ولا حتى من فوق العتبة بل من تحتها. وهذا يشير إلى أن الله يستخدم القلب المتواضع لكي يُجري منه بركات كلمته لأن الماء في الكتاب المقدس يشير إلى كلمة الله، وهي تعلمنا أن الله يحب المتواضعين ”يُقَاوِمُ اللهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَمَّا الْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً“ (يعقوب 6:4). فمن القلب المتواضع تخرج كلمات النعمة وتتزايد حتى تصبح نهراً يروي ويحيي ويشفي الأراضي التي يصلها.
ثانياً: كان اتجاه المياه نحو الخارج. فحينما يسكن الله في هيكله الذي هو المؤمن المطهر بدم المسيح تبدأ مياه من بركات عمل الروح فيه تخرج إلى الخارج باتجاه الآخرين. فالمؤمن الحقيقي لا يدّخر بركات الله لأجل نفسه فقط بل يشارك فيها الآخرين بالخدمة والعطاء؛ فيعطي لأجل خدمة الرب من قلبه، ومن فكره، ومن ماله، ومن كل ما يستطيعه. وهناك البعض ممن يريدون أن تتجه جميع السواقي إليهم ولا يخرج منهم شيء فيصبحون كالبحرالميت!
ثالثاً: جهة الجري نحو المشرق. دلالة على أن ذلك النهر هو نهر الشروق والأمل، نهر الصباح والحياة الجديدة، وليس نهر المساء، والظلمة، واليأس، والفشل، ولا هو من بقايا الحياة العتيقة كما يقول الرب في سفر الرؤيا ”هَا أَنَا أَصْنَعُ كُلَّ شَيْءٍ جَدِيدًا“ و”الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ، هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا“ (2كورنثوس 17:5).
هكذا كانت الصورة التي رآها حزقيال النبي، وهي توضح أن عمل الله في المؤمن المتواضع هو عمل متدرج يسير دائماً نحو النمو والتزايد. فالنقاط البسيطة التي خرجت من تحت العتبة تحوّلت نهراً! وهذا يعلمنا ألا نحتقر المواهب البسيطة التي لنا بل أن نستخدمها والرب يتمم العمل. وهذا واضح في تتمة تلك الرؤيا حيث أن حزقيال لم يقم بالقياس بل كانت القصبة بيد الملاك، وقاس الفاً ثم عبّره في المياه، فليس من مهام المؤمن قياس بركات عمل الله فيه.
±  في المرحلة الأولى كانت المياه إلى الكعبين لأن بداية الخدمة والعمل المثمر هي في السير مع الله أولاً خطوة فخطوة ”سَلِّمْ لِلرَّبِّ طَرِيقَكَ وَاتَّكِلْ عَلَيْهِ وَهُوَ يُجْرِي“. فلا نتوقف لكي نقيس البركات أو نحسب النتائج، ولا ننظر إلى قلة الموارد، ونقص المؤازرين، وصعوبة الطريق، وطول المسافة.
±  وفي المرحلة الثانية ”ثُمَّ قَاسَ أَلْفًا وَعَبَّرَنِي فِي الْمِيَاهِ، وَالْمِيَاهُ إِلَى الرُّكْبَتَيْنِ“. تلك مرحلة الجثو والركوع.. مرحلة التقابل مع الله بالتضرع والطلبات الحارة لأجل نفوسنا ولأجل الآخرين كي يبارك الرب العمل ويتقدمنا بروحه الصالح ويعطينا أراضي جديدة لنمتلكها.
±  وفي المرحلة الثالثة ”ثُمَّ قَاسَ أَلْفًا وَعَبَّرَنِي، وَالْمِيَاهُ إِلَى الْحَقْوَيْنِ“. تكون مياه المعمودية عادة بارتفاع الأحقاء فيغطس المعتمد ثم يقوم ويذهب في طريقه فرحاً.. وهي تشير روحياً إلى معمودية الروح القدس حينما يمتلك النفس والقلب والكيان. فبعد حياة الطاعة وحياة الصلاة لا بد من معمودية الروح القدس ”لأَنَّ يُوحَنَّا عَمَّدَ بِالْمَاءِ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَسَتَتَعَمَّدُونَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ، لَيْسَ بَعْدَ هذِهِ الأَيَّامِ بِكَثِيرٍ“ (أعمال 5:1).
±  وفي المرحلة الرابعة ”ثُمَّ قَاسَ أَلْفًا، وَإِذَا بِنَهْرٍ لَمْ أَسْتَطِعْ عُبُورَهُ، لأَنَّ الْمِيَاهَ طَمَتْ، مِيَاهَ سِبَاحَةٍ، نَهْرٍ لاَ يُعْبَرُ“، وفيها يختبر المؤمن كيف يصبح محمولاً تماماً على قوة الروح القدس، فلا يعبر برجليه ولكنه يلقي نفسه على المياه التي تحمله ليسبح في نهر قوة وبركة روح الله القدوس. وبذلك يستطيع العبور إلى الضفة الأخرى براحة وأمان.
  وبعد ذلك نرى الجزء الأخير العملي من الصورة حيث نزلت المياه إلى العربة إلى البحر الميت فشُفيت المياه التي كانت تمنع الحياة، وأصبحت قابلة لنمو البركات في الآخرين، فنمت على الشواطئ التي كانت مجدبة الأشجار، التي تعطي ثمرها، وكثر السمك والأحياء المائية ”وَيَحْيَا كُلُّ مَا يَأْتِي النَّهْرُ إِلَيْهِ“!
قارئي الكريم، بالتجاوب مع محبة الله في المسيح يسوع يتحوّل البيت العتيق المنهدم إلى هيكل جديد يظهر فيه مجد الله الآب، وبالروح القدس يتنقّى هذا الهيكل، وتُطرد منه كل تجارة وفساد لئلا يصبح مغارة لصوص. وبالمثابرة على وسائط النعمة يصبح منبعاً لبركات فياضة تتجه نحو الآخرين، وتجلب الخصب والنمو إلى الأراضي المجدبة، وحتى يتحوّل الهيكل الحجري الضعيف القابل للفساد إلى هيكل روحي حيث يُلبس مجد السماوي كما لبس مجد الترابي... فلنكن ساهرين ومنتظرين، ولإلهنا كل المجد والكرامة إلى أبد الآبدين.

المجموعة: 200906