أيار (مايو) 2009

تساءل أحدهم: لماذا كان المسيح في العديد من المواقف يشير إلى نفسه بأنه ابن الإنسان أكثر مما يشير إلى لاهوته؟!
فنقول بدايةً إن نبوات التوراة عن المسيح تطابقت مع ما جاء عنه في أسفار الإنجيل، وكلاهما يتحدثان عنه كإله وإنسان في آن واحد.


وكمثالٍ على هذا، ما ورد في سفر إشعياء الأصحاح التاسع وهو ينبئ عن حدث الميلاد قبل حدوثه بمئات السنين ويتكلم عنه كإنسان وإله في مشهد واحد فيقول:
"لأنه يُولد لنا ولدٌ، ونُعطى ابناً وتكون الرياسة على كتفه".   
ففي المقطع الأول من النبوة يتحدث إشعياء النبي عن ناسوت المسيح، أي عن إنسان سيولد من عذراء.
بينما في المقطع الأخير من النُّبوّة يقول: "ويُدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس  السلام".
فهو "إنسان" مولود وبنفس الوقت "إلهٌ قديرٌ" كما تعلنه النبوة!... وهذه توراة اليهود!
فالحديث مذهلٌ فعلاً، وكل ما يتعلّق بالله يذهل ويسمو فوق قدرة البشر على الاستيعاب!
فماذا نفعل؟
هل نحتجّ؟
هل نعارض؟
وهل نرفض؟
أم نقبل ونصادق على ما يقوله الله ونشكره لأنه يرضى أن يتعامل مع جبلتنا البشرية المحدودة الاستيعاب لنقترب منه أكثر فندرك بقدر ما يعطينا من فهم لحقائق تسمو فوق قدرة الإنسان على الاستيعاب!
فمع علمنا أن ما يقدّمه الوحي هو فوق إدراك  البشر،  لكننا ننظر إلى النبوة من منظار الثقة بصدق كلام الله، فما كان بوسعنا إلا أن نقول: صدق الله العظيم! لا لمجرد شعار بل نعني ما نقوله!
فنبوة إشعياء هنا تقدم لنا الحقيقة بوجهَي عملةٍ واحدة. في الوجه الأول تقدّم لنا طفلاً إنساناً سيولد من عذراء... وفي الوجه الثاني تؤكد لنا أنه هو الله!
والسؤال هنا: هل يولد الله؟!
الجواب: لا أبداً!
إنما الله حلّ بملء لاهوته في جسد مولود العذراء الكامل الطهر،  فكان جسده  حجاباً أخفى خلفه جلال الله. ولكن أعماله وأقواله في ما بعد، ونبوات من سبقه من أنبياء، شهدت له وأكّدت أن المسيح هو الله الظاهر بالجسد.           
ومن المهم أن ندرك هنا أن الجسد الذي ظهر الله فيه كان جسداً نقياً نقاءاً مطلقاً نما في أحشاءٍ لا أطهر ولا أنقى! وكل ما حصل في عملية التجسّد كان ضمن قدرة الله التي لا تحدّها حدود.
ولله في ذلك حكمة أدركناها كمسيحيين وفهمناها جيداً، وهذا امتياز نتمناه لكل سكان  الأرض.   
من هنا تقول المسيحية أن المسيح عاش على الأرض بطبيعتين: فبطبيعة اللاهوت – هو الله – وبطبيعة الناسوت هو أيضاً -  إنسان  -  إله وإنسان في آنٍ واحد.
فاللاهوت له طبيعته: غير محدود القدرة والسلطان.
والناسوت له طبيعته: كأيِّ إنسان يحزن ويبكي ويتعب ويجوع ويعطش ويتألم ويموت، مع فارق واحد هو أن ناسوت المسيح لم يكن فيه خطية البتَّة، فهو عاش على الأرض بقدسية مطلقة لم  يصل إليها  بشر.
والطبيعتان اللاهوت والناسوت تعايشا معاً في شخص المسيح.
وكل من الطبيعتين كان يقوم بدوره في انسجامٍ وتناغمٍ تام لإنجاز عملية الخلاص للبشرية بموت المسيح مصلوباً فديةً عن كل من يُقْبل إليه ويَقْبَل فديته.
هنا يقول قائل: لا أفهم كيف يكون هذا!  
فنقول: غيرك فهموها وآمنوا بها... وكاتب هذه الكلمات فهمها وآمن بها،  والمسيحيون عبر جميع أجيالهم فهموها وقبلوها لأنها من وحي الله، والوحي لا يُخطئ ولا يغشّ ولا يراوغ، ولا يكذب    ولا يتردد في أمرٍ، ولا يغيّر ما نطق  به.  
ونقولها بصراحة: إن سلوك المسيحيين الحسن  الملتزمين (أقول الملتزمين) بإيمانهم المسيحي من أي طائفة كانوا، يشهد لصدق عقيدتهم. فالعقيدة المزيّفة لا تصنع حضارة ولا تهذّب نفوساً، بل تصنع من الآدميين وحوشاً بثياب بشر، ومن ثمارها تُعرف الشجرة.
فحين كان المسيح يشير إلى نفسه بعبارة "ابن الإنسان" كان يؤكد على الجانب الناسوتي  في شخصه.  فجسده الذي عاش به على الأرض كان جسداً حقيقياً من دمٍ ولحمٍ وعظام مثل غيره من الناس إنما بلا خطية. فهو كما سبق وأشرنا جاع، وعطش، وأكل، وشرب، وتعب، وجلس على باب بئر السامرة، وطلب من السامرية ليشرب الخ... وكإنسان - أو ابن الإنسان - صلى وتشفّع لأجل الآخرين، مقدِّماً لنا أفضل مثالٍ في كيف نصلي، ولماذا نصلي، ومتى نصلي، وماذا نقول في صلواتنا، وكيف نتشفع رحمة بالآخرين حتى ولو عادونا وأبغضونا وقالوا علينا الكلام باطلاً.
بينما في لاهوته خلق البصر لإنسانٍ مولودٍ أعمى وأقام الموتى بقدرةٍ ذاتية وصنع ما صنع من معجزات تؤكد على أنه هو الله القدير، وهنيئاً لمن عرفه.

المجموعة: 200905