أيلول (سبتمبر) 2009

هل تردع صلاة المصلي عن الوقوع في الخطأ؟!
في برنامج إذاعي كنت أقدمه كتب لي أحدهم رسالة أثارت اهتمامي في موضوعٍ تجاوز ما ورد في رسالته. قال الصديق: يعجبني ما تقدمونه من برامج عملية تخاطب الضمير الإنساني وتدعو للإصلاح، والتغيير، وإعادة النظر في ما اعتدنا عليه من ممارسات سلوكية بحكم التقليد دون أن نتوقف لحظةً لنُميِّز بين الخطأ والصواب.


ويقول: ما دفعني للكتابة هو أنني انقطعت عن ممارسة الصلاة منذ فترة بسبب خطأ أعابني وقعت فيه، ولأن صلاتي لم تردعني عنه فقدت شهية الصلاة وتوقفت عنها. وقبل أيام انتابني بعض القلق، وكنت حينها في ساعة متأخرة من الليل، فوضعت سمّاعة في أذني ومددت يدي إلى جهاز الراديو بجانب سريري وعبثت بإبرته في العتمة إلى أن استقرّت على محطةٍ وإذ بها إذاعة مسيحية، واستمعت لحديثٍ جميلٍ. ما أدهشني فيه أن المتكلّم كان وكأنه يخاطبني شخصياً ويحلّل ما في نفسي وعلى علمٍ بتفاصيل حالي.
فما أثار اهتمامي في رسالة الصديق قوله: "صلاتي لم تردعني عن الوقوع فيما وقعت فيه من خطأ أو عيب، فتركت الصلاة".
ولي هنا التعليق التالي:
هناك ظاهرة منتشرة في أوساط المتديّنين - ولا نعمّم هنا - وهي من الظواهر غير القابلة للحوار أو المكاشفة لأنها تندرج في إطار الأمور الشخصية للمصلّي... ما أشير إليه هنا هو الانسجام بين صلاة المصلي وسلوكه، لماذا نلمح أحياناً أنّ صلاة المصلي تقف في جانبٍ وسلوكَهُ يقف في جانبٍ آخر مغاير؟! وفي ظاهر الشيء أن فلاناً يمارس الصلاة، ولا أحد يدري ما في داخله، ولا يحق لأحدٍ أن يكاشفه.
في جميع الأحوال، الصلاة ليست الضمانة لدخول الجنة، فالله وحدَهُ هو كاشف القلوب وعارف النوايا، ومن مصلحة المصلي أن يدرك جيداً أن صلاته إن لم تغيّر ما في داخله نحو الأفضل فلا نفع منها! وعندها عليه ان لا يترك الأمور للحظ في مهب الريح في أن تنفع الصلاة أو لا تنفع.
هنا يأتي دور التعليم والإرشاد والموعظة الحسنة التي تنبه على ما يجب وما لا يجب... ولكن المشكلة القائمة هي أن وعاظ المنابر يَنْزَعُون في مواعظهم إلى السياسة أكثر من نزوعهم إلى معالجة الأدواء السلوكية كمثل الداء الذي أشرنا إليه وغيره، ولهذا نجد أن الكثيرين ممن يمارسون الصلاة يمارسونها على سبيل عادةٍ تملّكتهم. فإن كانت صلاتي لا توصلني بالله فما نفعها! وهل الله بحاجة إلى سجودي وقيامي؟!!
إن كلمة الصلاة في الأصل تعني الصلة بين العابد والمعبود. وقديماً قال داود أحد أنبياء التوراة في مزاميره: "إن راعيت إثماً في قلبي لا يستمع لي الرب"، وفي ما نعرضه هنا في هذا البحث، نحن مع الصلاة، ونَحُثُّ عليها، ونؤكد على ضرورتها، أي الصلاة التي تغير القلب والسلوك، والأخلاق المنحرفة، واللسان وألفاظه النابية، والى غير ذلك من أمور تفسد الصلاة وتشوّه سمعة المصلي.
فالصلاة المقبولة عند الله، عدا عن أنها عبادة لله، فهي أيضاً تُنَقِّي النفس، وتهذّب الضمير، وتحسّن الخلق وتلطّف الأجواء، وتفرد الوجه العبوس، وتزرع السماحة في القلب، وتنزع رواسب التعصّب والحقد والكراهية للآخر، وتُحبِّب الناس بعضهم لبعض حتى ولو اختلفوا في اللون أو العرق أو الدين.
الصلاة الصادقة المرضية عند الله تحثّ على الصدق في القول، والأمانة في العمل، وتحسّن الخلق، وفوق هذا وذاك فالصلاة تغذّي العلاقة المباشرة بين المصلي وربّه، وبخلاف ذلك تكون الصلاة عبارة عن دور تمثيلي يقوم به المصلي وهو لا يدري.
قال أحدهم: فلان يصلّي، لكنه ضُبط وهو يهرّب المخدرات، وعندما أحاط به رجال الأمن، أطلق الرصاص فقتل شرطياً وهرب، وأثناء المطاردة جُرح وتمّ القبض عليه، فما نفع صلاةٍ من هذا النوع؟!
هنالك سفر بين أسفار العهد القديم له طابع خاص، هو سفر المزامير.  هذا السفر في معظمه صلوات نطق بها داود النبي، وصلواته كانت تخرج من قلب منسحق، وفي صلواته تلك كان داود يمرّ في أزماتٍ قاتلة بسبب مطاردة شاول الملك له ليقتله.  فكان داود كالعصفور يهرب من مغارة إلى أخرى ومن وادٍ إلى آخر. وصلواته كانت العزاء الوحيد له في محنه.
يشتمل سفر المزامير على مائة وخمسين مزموراً ينسب معظمها إلى داود النبي، ولذلك يغلب عليه تسميته بمزامير داود.  ومن اختباري الشخصي في قراءتي اليومية للكتاب المقدس، فقبل أن أجثو صباحاً على ركبتيَّ في خلوتي قُبَيْلَ البدء بالعمل، غالباً ما أقرأ شيئاً من المزامير، وأحياناً أجد نفسي وقد توقّفت عند آيةٍ تشدني إليها، أو كلمةٍ في آية، عندها يسبح فكري في آفاقٍ من التأمّل والعبادة في اتصالٍ مباشر مع الله، أجثو بعدها على ركبتيَّ وأرفع صلاتي لله بروحٍ منفتحة فيتعزى قلبي، وترتاح نفسي، وينفرد وجهي لاستقبال ما يأتي خلال ساعات اليوم بثقةٍ وابتهاج.  فالقارئ الذي يقلّب صفحات هذه المزامير ويتأمل بما فيها بتأنٍّ وخشوع يشعر بأن صلوات داود تلك كانت صلوات خارجة من قلبه وليست مجرد كلمات تُردّد عن ظهر قلب تأديةً لواجب دون أن يدري صاحبها إن كانت صلاتُهُ قد بلغت قلب الله أم لا. المهم لديه أنه قام بواجبه.. هنا يقع الخطأ.. وهنا تُهْدر أوقات.. فصلوات كهذه لا تؤدي المطلوب، وكأن المصلي فيها تائه في صحراءٍ رملية يسير على غير هدىً، وهو يظن أنه كلما قطع خطوةً للأمام يقترب من مُبْتغاه، ولا يدري أنه كلما أوغل في سيره ازداد ضياعاً وقد يؤدي ذلك إلى حتفه.
وهنا أقول إن الصلاة المسيحية ليست لعبة نلعبها، أو تمثيلية نقوم بها، وهي ليست مجرّد واجب أو فرضٍ نؤديه للتخلص منه أو لنخلص من همه، بل الصلاة في العرف المسيحي هي تعبير عن حبّ المؤمن لله، والمؤمن المسيحي يخشع في صلاته لله ويشكره ويهلل لجلاله خاضعاً ومعترفاً بعظمة الله وسلطانه عليه، ويسأله أن يقوّيه وينشّطَهُ في طاعته ويستخدمه لتمجيد اسمه في الأرض. يتحدث إليه كما يتحدث الخلّ لخليله. ألم يكن أبونا إبراهيم خليل الله؟! ولِمَ لا نكون نحن كذلك؟! هذا ما يجعل العبادة  او الصلاة المسيحية بَهِجَةً ومفرحة للقلب، لذلك يقول الوحي في المزمور المئة: "اعبدوا الرب بفرحٍ. ادخلوا إلى حضرته بترنم"، ويقول الشاعر المسيحي في وصفه للصلاة:
يا طيب ساعات بها أخلو مع الحبيب
يجري حديثي معه سرّاً ولا رقيب
فالمصلّي حسب وصف الشاعر هنا يخلو مع حبيبه ”الله“، فيتحدّث إليه في خلوته في لحظات هادئة بعيداً عن ضجيج الحياة.  فعبادة كهذه حتماً تؤثر في السلوك المسيحي للمصلّي! وهذه ميزة يتميز بها المؤمن المسيحي فى صلاته لله من أي طائفةٍ كان.

المجموعة: 200909