نيسان April 2005

إن من يطالع وقائع محاكمة المسيح وصلبه، كما دوّنها البشيرون، فإنه يخرج للوهلة الأولى بصورة قاتمة تدعو إلى الفشل. لقد ظهر يسوع الناصري في منطقة الجليل قبل ألفي عام، وقاد الجماهير بقوة تأثير شخصه وعظمة معجزاته! لكن أتباعه وتلاميذه انهاروا فجأة حين بدأ رؤساء الكهنة ومن لفّ لفّهم يحاكمونه، ويتجبرون عليه، وهو لا ينبس ببنت شفة.

 

وزاد الوضع هولاً حين أسلموه للوالي الروماني، وطلبوا إليه بكل إصرار أن يصلبه..! فانكره أشجع تلاميذه وهرب الباقون كلهم من حوله.

لكن الأمر العجيب الذي تبع هذه الأحداث قلب جميع الموازين، وصار المندحرون قوة جبارة اجتاحت البلدان، وقوّضت الممالك، ورسّخت صورة الناصري في الأذهان والقلوب.. إنها قوة القيامة..!

لقد تبع الكثيرون يسوع فأحبوه، واحترموه، ولازموه في الليل والنهار. لكن آخرين أبغضوه، واحتقروه لا لشيء إلا لأنه بكّتهم على خطاياهم وتقاليدهم الزائفة، ولأنه فعل الكثير مما لا يستطيعون فعله فكادوا له ووجهوا له الشتائم والتهم، ثم شمتوا بموته ميتة الضعيف المهان.

وحتى أولئك الذين أحبوه، وقد دوّنوا تاريخ تلك الفترة، لم يخفوا إخفاقهم في الولاء له ساعة المحنة، فكتبوا بمنتهى الصدق والموضوعية واصفين مظاهر الضعف والهزيمة التي ألمت بهم حين استسلم سيدهم لصالبيه. "حينئذ تركه التلاميذ كلهم وهربوا"
(متى 56:26). كما لم يخفوا مظاهر الخيانة والإنكار، فيذكر البشيرون قصة إنكار بطرس، وكيف وقف أمام الخدم والجواري يحلف ويلعن قائلاً: إني لا أعرف الرجل! فقد عاد الناصري بالنسبة إليه مجرد رجل عادي ليس غير، واختفت من ذاكرته عبارة "أنت هو المسيح ابن الله الحي" (متى 16:16)، وعبارة "يا رب إلى من نذهب؟ كلام الحياة الأبدية عندك" (يوحنا 68:6). وفُقِدت من إرادته وتصميمه مقولة "ولو شك فيك الجميع فأنا لا أشك أبداً" (متى 33:26)؛ وعبارة "إني مستعد أن أذهب معك إلى السجن وإلى الموت" (لوقا 33:22).

أما الذين أبغضوه فيصفهم الإنجيل المقدس هكذا: "وكان المجتازون يجدفون عليه وهم يهزون رؤوسهم قائلين: "يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خلّص نفسك. إن كنت ابن الله فأنزل عن الصليب. وكذلك رؤساء الكهنة أيضاً وهم يستهزئون مع الكتبة والشيوخ قالوا: خلّص آخرين أما نفسه فما يقدر أن يخلّصها. إن كان هو ملك إسرائيل فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به" (متى 39:27-42).

وما هي إلا أيام ثلاثة مكثها يسوع في القبر، خيّمت بظلِّها الكئيب على أولئك الأتباع. لكن الأمور انقلبت فجأة، فخرج الذين كانوا متوارين خلف أبواب مغلّقة ليظهروا علناً في الشوارع، وفي المجامع، وتحوّل المتّهمون إلى قضاة يعلنون للملأ خطية الذين رفضوا المسيح وصلبوه. ولما أُلقي القبض عليهم من جديد كانوا مملوئين بالثقة بشكل لا يُصدَّق. "فلما أحضروهم أوقفوهم في المجمع فسألهم رئيس الكهنة قائلاً أما أوصيناكم وصية أن لا تعلموا بهذا الاسم وها أنتم قد ملأتهم أورشليم بتعليمكم وتريدون أن تجلبوا علنيا دم هذا الإنسان. فأجاب بطرس والرسل وقالوا: "ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس" (أعمال 28:5و29).

فلو بقي المسيح في القبر لبقي هؤلاء التلاميذ منهزمين وخائفين إلى أن ينتهي أمرهم بعد أيام قلائل وينسوا طائعين أو مكرهين أمر ذلك الناصري...

وأما الأعداء فلو بقي المسيح في القبر لكان لهم شأن آخر إذ أنه لولا القيامة لاغترّوا بفعلتهم، وشددوا الخناق على أتباع يسوع فأبادوهم. ولكن القيامة جعلتهم يتحسّبون لكل عمل كانوا سيقومون به ضدّ أتباع يسوع حتى صاروا يتحايدونهم.

ثم ماذا عن المستقبل؟ فلولا القيامة لما سمعنا في جيلنا هذا أنه كان هناك شخص اسمه يسوع، وكانت أخباره كغيره انطفأت منذ زمن بعيد.

بالقيامة تَوَضَّح كنه الصليب، وبدلاً من كونه رمزاً للعقاب والموت، فقد أصبح مركزاً للفداء، وأدرك الناس قوته منذ ذلك الحين، فصار موضوع فخر المؤمنين وعزتهم. ثم ساد هذا المفهوم وتعظم، فصار الصليب يرصِّع تيجان الملوك. وتبارت مؤسسات الأعمال الخيرية في جعله شعاراً لها يرفرف على شاراتها وسيظل هكذا حتى آخر وجود للإنسان على وجه هذه البسيطة.

بالقيامة سطع نور جديد أضاء في أرجاء كثيرة، فجلا ظلمة الجهل الروحي عن نفوس كانت معصوبة العيون.. مغلقة القلوب.. لم تستطع أن ترى خلاص الله إلا في الرموز المادية المنظورة من تقاليد، وأمانات، وأعمال باطلة ليست لها قيمة ما بموازاة عمل الفداء العجيب، الذي كلّف الابن الإلهي.. موت الجسد بديلاً عن الخطاة ليفديهم، ويغفر خطاياهم، ويقرِّبهم إلى الله الذي تمّ التعدّي على قداسته من جراء خطية الإنسان، ثم عاد قلبه مفعماً بالرضى بفضل موت المسيح.

وبالقيامة أُعلن نصر أكيد، حيث انتصر المسيح القائم من بين الأموات، على قوات الظلمة، وقهر هول الموت. فصارت قيامته سنداً لقيامة المؤمن من قبر الخطايا والآثام لحياة جديدة منتصرة غالبة لقوة الخطية وآثارها حيث تمضي الأمور العتيقة ويُصبح كل شيء جديداً.

بالقيامة تكرّس عهد مجيد، صار فيه المؤمنون بيسوع يملكون قوة غير عادية. فقاوموا السلاطين، والولاة، وجميع قوات الشر في العالم، وجاهدوا في سبيل نشر بشارة الصليب حتى وصلت إلى كل أنحاء الدنيا. لم يهابوا ظلماً، ولا موتاً، ولا اضطهاداً، وقدّم الكثيرون من الرسل والتلاميذ الأولين نفوسهم شهداء، فصاروا بذار الكنيسة الذي نما بقوة القيامة وعمل الروح القدس، فأعطى ثماراً يانعة لمجد المسيح وحمده.

وهكذا انتشرت بشارة الصليب وعمت، لأن الذين حملوها تقدموا بكل تضحية وإخلاص، فصارت بلادهم الأكثر حضارة في العالم، وحملوا خدمات المحبة والشفقة، ورعوا حملات المعونة والإحسان إلى الأماكن الأكثر فقراً وتخلّفاً، بصرف النظر عن انتماءاتهم العرقية أو السياسية أو الدينية.

إنها النصرة الأبدية التي تحققت بالقيامة بعد الصلب. فقد أكدت نفسها بسلطان إلهي. وغلبت العالم بدون قوات، أو جيوش، أو أساطيل، وبدون أسلحة القتل، أو وسائل التدمير، لكن بقوة الإيمان والمحبة ينتصر أولئك الذين آمنوا بعمل الفداء العظيم في كل زمان ومكان.

عزيزي القارئ،

لا يضير الإيمان المسيحي الحق أن يكون هناك أناس يستعملون السلاح، ووسائل القتل والإرهاب، أفراداً أم جماعات. فسيبقى صليب المسيح رمزاً للمحبة والفداء، وستؤول إلى المسيح الحي جميع نهايات الأمور في العالم لأنه سيدين الأحياء والأموات. وسيملك إلى الأبد في عرش السماء. تعرَّف به واسْلَم بذلك يأتيك خير.

المجموعة: نيسان April 2005