آب (أغسطس) 2005

"ليس إله آخر إلا واحداً" (1كورنثوس 4:8)

 

إن المسيحية كأية ديانة أخرى مُلزِمة بأن تؤمن بما أعلنه الله لها. فالمسيحيون يؤمنون بوحي كتابهم المقدس. والبوذيون يؤمنون بكتابهم وكل ديانة تؤمن بما لديها. يكتب لنا داود النبي بأن الله سبحانه وتعالى قد أعلن لنا نفسه في الخليقة، فقال: "السماوات تحدّث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه" (مزمور 1:19). لكن هذا الإعلان لا يكفي لأن يوصّلنا إلى معرفة إله أزلي خلق الكون وأبدع في خلقه وسيّره على أتقن نظام. فالوحي الإلهي المُعلَن لنا في الكتاب المقدس يخبرنا عن صفات الله، ومحبته، وقدرته وكيفية تنازله لفداء البشر الذين عصوا الله واستهانوا بنواميسه. فالمسيحية منذ نشأتها تعلن وتؤمن بوحدانية الله. ففي القرن الرابع الميلادي اجتمع عدد كبير من أقطاب المسيحيين من مختلف البلدان في مدينة نيقية سنة 325 م لكي يضعوا أساساً للعقيدة التي كما قلنا حيّرت الناس ولكنها مستقاة من الكتاب المقدس. وكانت نتيجة قرارهم هو ما نسميه بالقانون المسيحي النيقي نسبة إلى مكان كتابته في مدينة نيقية، واستهلوا كتابته بهذه الكلمات: "إننا نؤمن بإله واحد آب ضابط الكل خالق السماء والأرض". فالمسيحية منذ بداءتها تؤمن بوحدانية الله، وكل مسيحي يستطيع أن يشهد ويؤمن بأن "لا إله إلا الله". لكن هذه الوحدانية يمكن أن نسميها "وحدانية جامعة"، بمعنى أن الله واحد لكنه في وحدانيته ثلاثة أقانيم. وكما ذكرنا بأنهم توصّلوا لهذه النتيجة ليس بمجرّد ابتكار ابتكروه، بل استقوا معلوماتهم من الكتاب المقدس في عهديه التوراة والإنجيل. وإليك ما جاء في أول سفر من أسفار الكتاب المقدس وفي أول أصحاح، وأول آية، ورابع كلمة إذ يذكر اسم الجلالة الإلهية "الله". ولكن كلمة "الله" في اللغة العبرية جاءت بصيغة الجمع "إلوهيم". وكلمة إلوهيم جمع مذكر للاسم العبري إلوه (أي إله) مع أن الفعل "خلق" باللغة العبرية "برا" جاء في صيغة المفرد.

ثم جاء في نفس الأصحاح الأول والآية السادسة والعشرين ما يلي: "وقال الله (إلوهيم) نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا..." فالنون في "نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا" جاءت في صيغة الجمع مع أن الفعل "قال" جاء في صيغة المفرد، مع أن الفعل يجب أن يكون في صيغة الجمع. ثم في العدد السابع والعشرين نقرأ: فخلق الله (إلوهيم) الإنسان على صورته". هنا أيضاً جاءت كلمة "خلق" في صيغة المفرد مع أن كلمة "الله" جاءت في صيغة الجمع.

وإذا تقدّمنا أكثر في القراءة نرى تلميحات أخرى في قوله تعالى: "هلمّ ننزل ونبلبل هناك لسانهم" (تكون 7:11). فالنون في "ننزل ونبلبل" تدلّ على الذات الإلهية فضلاً عن كون الفعلين مسبوقين بالقول "هلمّ".  فلو فرضنا جدلاً وسلّمنا بأن الجمع في الاصطلاح العربي يدلّ على التعظيم للإله الواحد، فلمن قال الله "هلمّ ننزل"؟ ألا يدلّ هذا القول على أنه يوجد متكلّم ومخاطَب؟ فالسؤال: من هو المتكلم؟ ومن هو المخاطَب؟ ألا يدلّ هذا على أنه يوجد جمع في الوحدانية؟

ثم أريد أن أسأل: هل الله سبحانه وتعالى يحتاج إلى تعظيم؟ علاوة على ذلك لم ترد هذه الفكرة في التوراة المكتوبة باللغة العبرية. فمثلاً، فرعون يقول: "أنا فرعون". ونبوخذنصّر يقول: "أنا نبوخذنصّر"، وكورش الملك يقول: "أنا كورش". وكل من هؤلاء ملك يعظّمه الناس، لكنه قال كل منهم: "أنا" وليس نحن.

ثم إذا تقدّمنا في الدراسة إلى الأصحاح الثالث من سفر التكوين بعد سقوط آدم وعصيانه نقرأ الكلمات التالية: "وقال الرب الإله هوذا الإنسان قد صار كواحد منا" (تكوين 22:3). هنا نرى سؤالاً آخر يفرض نفسه وهو: إذا كان الرب الإله هو المتكلم فمن هم المخاطَبون؟

ثم نأتي إلى ما كتبه إشعياء النبي بالوحي المقدس عندما رأى الله في جلاله وعظمته وجبروته: "ثم سمعت صوت السيد [الرب] قائلاً: "من أرسل ومن يذهب من أجلنا؟" (إشعياء 8:6) فالسيد هنا الرب القدير، واسمه يدل على وحدانية الله، ولكن الجمع في "من يذهب من أجلنا" تلميح على أنه يوجد تعدّدية في الوحدانية. لأن السؤال يطرح نفسه أيضاً: من هو المتكلم ومن هم المخاطَبون؟ ثم نقرأ عن إبراهيم عندما كان يتشفّع إلى الرب من أجل سدوم، "وأما إبراهيم فكان لم يزل قائماً أمام الرب" (تكوين 18:22). وفي العدد السابع والعشرين نقرأ: فأجاب إبراهيم وقال: "إني شرعت أكلم المولى وأنا تراب ورماد". ثم في العدد الثالث والثلاثين نقرأ: "وذهب الرب عندما فرغ من الكلام مع إبراهيم ورجع إبراهيم إلى مكانه".

إن الكتاب المقدس يصرّح ويعلن لنا بأن الله روح والروح لا يُرى، لذلك أراد هذا الإله الروح أن يعلن لنا نفسه، فأعلن لنا نفسه في شخص المسيح الذي كان عند الآب منذ الأزل إذا يقول إشعياء النبي على لسان المسيح الأزلي: "منذ وجوده أنا هناك، والآن السيد الرب أرسلني وروحه" (إشعياء 16:48). ففي هذه الآية نجد المرسِل والمرسَل وروح الإرسال. لكن الكتاب المقدس يعلن بأن "الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبّر" (يوحنا 18:1). فعندما خلق الله الإنسان على صورته كشبهه، خلقه على صورة المسيح الذي كان مزمعاً أن يتجسّد في ملء الزمان.. إذ يقول الكتاب: "ولكن لما جاء ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس، لننال التبني" (غلاطية 4:4-5). هنا كلمة "أرسل" تفيد المعنى أنه كان موجوداً قبل أن يُرسَل.

لقد وردت أسماء الله (إلوهيم) أكثر من 2500 مرة في صيغة الجمع و50 مرة في صيغة المفرد. والسؤال الذي يفرض نفسه هو: لماذا جاءت أسماء الله مرة في صيغة الجمع وأخرى في صيغة المفرد؟ أليس ذلك لكي يدلّ على أن الله واحد في ثالوث، وثالوث في واحد وأنه يجمع في وحدانيته ثلاثة أقانيم؟

يعلن الكتاب المقدس بصورة واضحة وجلية بأن المسيحيين يؤمنون بوحدانية الله عزّ وجلّ. وإليك النص الصريح في الإنجيل المقدس إذ يقول: "أن ليس إله آخر إلا واحداً" (1كورنثوس 4:8). أضف إلى ذلك بعضاً من الآيات التوحيدية كما دونها الإنجيل المقدس: "الرب إلهنا ربّ واحد. وتحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك" (مرقس 29:12-30)؛ "لأنه يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس" (1تيموثاوس 5:2)؛ "لأن الله واحد، هو الذي سيبرّر الختان بالإيمان والغرلة بالإيمان" (رومية 30:3)؛ "أنت تؤمن أن الله واحد. حسناً تفعل. والشياطين يؤمنون ويقشعرّون" (يعقوب 19:2).

يقول السيد المسيح: "إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي، وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلاً" (يوحنا 23:14). فالضمير في قوله "نأتي.. ونصنع" عائد إلى الآب والابن معاً وليس فيه شيء من التعظيم اللفظي.

لا تستغرب أيها القارئ العزيز بأنه يوجد كثير من التشبيهات الثلاثية في التوحيد. فالإنسان جسد، وروح، ونفس ولكنه واحد في ثالوث. والبيضة تحتوي على القشرة والبياض والصفار ولكنها بيضة واحدة. فأنت لا تقدر أن تأخذ قشرة البيضة وتقول هذه بيضة. وقس على ذلك الكثير كالذرة، والخلية، وإلخ...

المجموعة: آب August 2005