آب (أغسطس) 2005

قبل أن نغوص في الحديث عن أزلية المسيح كدليل على لاهوته لنستمع بدايةً إلى شهادة من طرف آخر - غير الإنجيل - بعيد زمنياً عن العصر الذي عاشه المسيح على الأرض بما يقارب الثمانمائة عام مرّت قبل ميلاده! والشاهد هنا هو التوراة، والناقل لهذه الشهادة هو نبي شريف يُدعى ميخا. فالتوراة كما هو معروف للباحثين تحوي الكثير من النبوات التي تتحدّث عن المسيح قبل ميلاده بأزمنة طويلة. أشارت التوراة بوضوح إلى ميلاده من عذراء، وحدّدت مكان ولادته في بيت لحم قبل ميلاده بزمن طويل، وتحدّثت عن ملامح حياته، وعن طبيعة رسالته، وغرض مجيئه، وعن أمور أخرى سبق وأشرنا إليها لا مجال للخوض فيها الآن، إنما غرضنا في هذه الحلقة أن نقرأ شهادة حق من وحيٍ رباني نطق بها نبي كريم.

 

ميخا النبي هو أحد أنبياء التوراة المكرمين الذي عاش قبل الميلاد بحوالي ثمانمائة سنة، وتحدّث عن أزلية المسيح مولود بيت لحم بصورة هي في غاية الوضوح. ولميخا النبي سفرٌ جليل بين أسفار الوحي في التوراة يسمّى باسمه ويقع في سبعة إصحاحات يمكن لمن يرغب أن يطّلع على ما جاء فيها بنفسه. وميخا النبي في سفره يصف حالة التردّي التي كان يعيشها شعبه العبراني آنذاك، فندّد بالحكام وكهنة الشعب مؤنباً إياهم على جشعهم وسوء استغلالهم لمواطنيهم، وعلى لهثهم وراء المال الحرام باغتصابهم بيوت الفقراء من شعبهم، كما وبخ المجتمع الذي عاش في وسطه على صورة النفاق الديني المتمثـّل بمظاهر التقوى والعبادة المزيفة من ممارسات للشعائر الدينية كغطاءٍ للإثم والفساد الذي يسري في الأمة.

ولذلك جاء الوحي على لسان ميخا النبي لينذر الشعب بمجيء دينونة تأديبية تأكل الأخضر واليابس ويحذرهم من الاستمرار على ما هم عليه من ظلم. لكن وفي زحمة حديثه ذاك يبسم الوحي عن إشراقة أملٍ جديد سيتحقق بقيامٍ عظيم قادم يمتلك سلطاناً بهياً يخرج من قرية صغيرة منسيةٍ بين قرى فلسطين ويسمّيها بيت لحم. وهذا البهيّ القادم يعمّ سلطانه إلى أقاصي الأرض ورسالته هي رسالة السلام.

هذا بعض ما ينقله إلينا الوحي من خلال سفر ميخا، ونحن لا يمكننا أن نغطي كامل ما جاء به السفر في صفحات قليلة، إنما سنركز أكثر على آيةٍ من بين آيات السفر تبهر العقول وتفجر أمام القارئ معلومة مذهلة بقيت خفية عن أذهان الشعب في حينه لأن وقت تنفيذها لم يكن قد جاء بعد.

فآية حديثنا هذه تقع في الأصحاح الخامس إذ يقول الوحي هناك: "أما أنتِ يا بيت لحم أفراتة وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنكِ يخرج لي الذي يكون متسلطاً على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل". لنا في هذه الملاحظات التالية:

أولاً: المتحدّث هنا هو الله، وهو القائل على لسان نبيِّه "يا بيت لحم، فمنكِ يخرج" لي متسلّط يحفّ به هذا الجلال والقوة.

ثانياً: النبوّة تتحدّث عن شخصية لها شأن مهيب سيخرج للدنيا من قريةٍ متواضعة لا تحسب بين قرى فلسطين.

ثالثاً: يلاحَظ أن النبوة لا تتحدّث عن مخلوق بشري، بل تعطيه هويةً أعظم من البشر، وأعظم من الملائكة وأعظم من كل مخلوقات الله إذ تصفه بالكائن الأزلي حين يقول: "ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل". كلنا نؤمن أن الأزلية هي لله وحده، ولا أزلية لغير الله.

رابعاً: الوحيد العظيم الذي خرج من بيت لحم وأعطى بيت لحم هذه الشهرة العالمية هو المسيح مولود العذراء، ومع أنه مولود إلا أنه موصوف بالأزلية مما يعني أن وجوده كان قد سبق ميلاده.

خامساً: كلنا يفهم أن المسيح هو كلمة الله، وما ينسب للذات الإلهية فهو أزلي. فكلمته ملازمة له. وبكلمته كان يقول للشيء كن فيكون، ولم يكن الله يوماً في معزلٍ عن كلمته. وهذا يؤكد أن المسيح كان له وجود قبل تكوين العالم. وجاء تأييد الوحي في ذلك على لسان يوحنا الرسول في فاتحة إنجيله بقوله عن المسيح: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء ممّا كان".

فنبوة ميخا النبي تحدّثت بما لا يقبل التأويل عن أزلية مولود بيت لحم. ولأن كلام الله منسجم بعضه ببعض، لا يتبدّل ولا يتغيَّر جاء في إنجيل الوحي على لسان يوحنا الرسول ما يؤكّد على أزلية المسيح إذ قال: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله". والسؤال الآن: من هو هذا الكلمة الملازم لله منذ البدء؟ وكيف وصل إلينا هذا الأزلي مولوداً في بيت لحم؟ يجيب عن هذا كتاب الوحي على لسان يوحنا الرسول بقوله: "والكلمة صار جسداً وحلّ بيننا، ورأينا مجده..." هذه هي القصة بكل بساطة فمع كونها تفصح عن مخطط رباني يسمو فوق عقولنا كبشر، إلا أن ما ورد فيها وما أُنجز فهو حقيقة ربانية، والحقيقة الربانية تفرض نفسها سواء قبلها زيد أو رفضها عمرو، ومن قبلها نال الطوبى وختم على صدق الوحي.

قارئي الكريم، أقولها بصراحة: يعجبني الانسجام بين أسفار الوحي سواء في التوراة أو الإنجيل. فالوحي في أسفار الكتاب المقدّس لا يتناقض مع بعضه البعض رغم البعد الزمني الذي يفصل بين سفرٍ وآخر، فلا تبديل ولا تغيير لكلمات الله لأن المصدر واحد. وهل يتناقض الله مع نفسه؟!

أقول هذا وأعود إلى سفر آخر من أسفار التوراة هو سفر إشعياء، فلنستمع إلى ما يصرّح به الوحي هناك. يقول في الأصحاح السابع منه: "يعطيكم السيد نفسه آية، ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل". هنا نفهم أن عذراء ستلد ابناً بمعجزة، بمعنى أن العذراء لم يمسها رجل ثم يعود الوحي في الأصحاح التاسع ليوضح هوية هذا المولود بأكثر صراحة فيقول: "لأنه يولد لنا ولد، ونُعطى ابناً، وتكون الرياسة على كتفه". ثم يستمر الوحي ويعطينا تفاصيل هوية هذا المولود فيقول: "ويُدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام لنموّ رياسته وللسّلام لا نهاية".

هل توقّف أحدنا عند هذه المقاطع التفصيلية التي تحدّد هوية هذا المولود؟ فهو هنا في سفر إشعياء ابن عذراء، وهو هناك في سفر ميخا مولودٌ في بيت لحم، ثم في إشعياء يُدعى اسمه "إلهاً قديراً"، و"أباً أبدياً"، مع أنه مولود من لحمٍ ودم. أليسَ في هذا غرابة!.. ثم يصفه سفر ميخا بأن مخارج هذا المولود هي منذ القديم منذ أيام الأزل.

إذاً فالمطروح علينا أصبح جلياً ولو أنه فوق تصوّر عقولنا البشرية. فالمولود أُشير إليه بأنه هو الله، وبهذا نفهم أن المسيح هو الله، وتجسّد بهيئة بشر. فالله غير المنظور جاء عالمنا، وظهر بيننا، وكلّمنا من وراء حجاب الجسد المنظور. فالمسيح بهذا هو الله بكامل لاهوته وهو إنسان أيضاً بكامل ناسوته، ولذلك نراه يبكي أمام قبر لعازر بناسوته، وفي نفس الوقت ينادي بلاهوته الميّت المدفون في قبره منذ أربعة أيام، فسمعه الميت، وقام وحضر بين يديه أمام عيون الحاضرين.

المجموعة: آب August 2005