آب (أغسطس) 2005

كانت هذه العائلة تعيش في محبة المسيح حياة الأمان والهدوء والاستقرار. لا وجود لبلية ولا لمعضلة، لا انزعاجات ولا تجارب. هذا لاهوتنا الشخصي، لكن، للاّهوت الكتابي وجهة نظر أخرى: فمَرَضَ لعازر!!

 

وهذا الحدث المفاجئ يزيح الستار عن فصل آخر غير مريح وغير مشجع. وبالنسبة إلى لاهوتنا، بدأنا نواجه مشكلة وندخل في مأزق. فنحن نحسب أنه ما دام يسوع يحبنا لن يصيبنا ضرر أو سوء. لذلك أرسلت الأختان إلى يسوع تخبرانه عن حدث يعكّر صفاء الهدوء: نحن اعتدنا أن تكون شافي أمراضنا وحامل أسقامنا. أنت وحدك ترعانا وتهتم بنا. أنت الملجأ الوحيد في وقت الصعوبات والتجارب؛ لذا نعلمك بما حصل لنا فالمحبة المتبادلة لا تسأل أكثر من هذا. ولما سمع يسوع أن لعازر مريض "مكث حينئذ في الموضع الذي كان فيه يومين" (يوحنا 6:11).. وهنا يزاح الستار عن فصل آخر وهو:

موقف يسوع الحيادي

هل هذا ما كنّا نتوقعه من شخص يحبنا ونحبه؟ أبَعْدَ هذه الرسالة العاطفية، من القلب إلى القلب يمكث يسوع في الموضع الذي كان فيه يومين؟ ولعل أسوأ ما في الأمر، بحسب رأينا، أنه مكوث مقصود.

الموقف محيّر، ونحن المحدودي الفكر والإمكانيات لا نحتمل الانتظار. نحن نريد تجاوباً سريعاً وبحسب رأينا؛ والرب يريد تجاوباً سليماً صحيحاً وبحسب رأيه. وهنا الصراع، ولمن نسلّم؟ لرأينا وطريقتنا أم لرأيه وطريقته؟

نحن نتسرع، أما المسيح فلا. أرسل جواباً يردّ فيه على رسالة الأختين قائلاً: "هذا المرض ليس للموت، بل لأجل مجد الله، ليتمجَّد ابن الله به" (يوحنا 4:11)، وصَمَتَ. قالها جازماً ثم صَمََتَ، وما أرهب هذا الصّمْت. إن كلام المسيح يعني الكثير، فماذا عن صمته؟ إن صَمْتَ يسوع ليس دليل عجز لكنه يخفي وراءه مقاصد سامية.

لماذا مرض لعازر؟ لماذا ضُربَ الاستقرار في هذا البيت؟ لماذا سمحت الظروف أن يكون المسيح بعيداً عن بيت عنيا في عبر الأردن؟ لماذا لم يتجاوب ويأتِ؟ لماذا لم يقل كلمة شفاء، ولماذا هذا الصمت والغياب؟ أسئلة كثيرة لا جواب لها. إن كان يصعب علينا أن نفسّر كلام المسيح بعمقه ومعناه الأصيل، فكيف لنا أن نفسر صمته؟

إن موقف المسيح هذا يؤثر إلى حدّ ما في علاقتنا به. وعدم التجاوب السريع، بحسب انتظارنا وأملنا، يُنذر بالإحباط. وخصوصاً عندما ننمو في الإيمان الذي يعلمنا أن لا نتكل إلا عليه ولا نثق إلا به ولا نرجو إلا سواه. الإيمان الذي يفرض ابتعادنا عن الجميع وتخلّي الجميع عنا. هنا تبرز حاجتنا إلى نقلة إيمانية جديدة، وزيادة مقدار هذا الإيمان.

أحياناً كثيرة توصد جميع الأبواب أمامنا، ويبدو لنا أن الجميع أهملونا، حتى المسيح، الذي لم يطلب أحد منه مساعدة إلا ولبّى طلبه، وبسرعة، شفى ابن خادم الملك في كفرناحوم من بعيد، كما أبرأ في بركة بيت حسدا مريضاً منذ ثمان وثلاثين سنة، ووهب البصر للمولود أعمى منذ ولادته، وأسرع لشفاء غلام قائد المئة، وتعامل للحال، مع الابن المعذّب من الروح النجس. ولماذا الآن هذا الإهمال المتعمَّد؟

هذا التصرف اللامبالي يشلّ تفكيرنا ويقتل فينا الأمل والتوقع، ولا نعلم ماذا نفعل. لكن حذار من الاستسلام، فالمسيح لا يتعامل مع الجميع بالطريقة نفسها، ولكن بحسب مستويات الإيمان والاختبارات، وبحسب الإجراءات المطلوبة لكل عملية معيّنة.

أصبحت هذه العائلة الآن مؤهلة لهذا النوع من المعاملة. لها علاقة عميقة بالمسيح، لا تحكم على التصرف بل على الشخصية. يسوع محب وحنون سواء لبّى الدعوة أم لا، أكان قريباً أم بعيداً، أتجاوب معنا أم لم يتجاوب. نحن قمنا بواجبنا وهو يعرف كيف يقوم بما عليه. هذا النوع من التعامل قد يشلّ تفكيرنا ولكنه يعطينا استعداداً لنسلم تسلمياً كاملاً للرب ولمعاملاته الحكيمة.

إبراهيم تدرّب على هذا النوع من المعاملة: خرج من أرضه ومن عشيرته ومن بيت أبيه، وهو لا يعلم إلى أين. أعدّه الرب وأهّله لمهمة لا يستطيع أي شخص آخر أن يقوم بها. وصل إلى مرحلة كان مستعداً لأن يأخذ ابنه وحيده ويقدمه محرقة.

ألم يصمت المسيح إزاء صراخ المرأة الفينيقية الطالبة رحمةً لابنتها المريضة والمجنونة؟ تعامل معها بقسوة؛ ولكنها قسوة مقصودة. صدّها؛ لكنه صدّ مقصود. إنه خير وبركة للعارفين والمتمرسين بأسلوب المسيح. لقد فَهِمَت معاملات الرب معها. فهمت أن لا استحقاق لديها، فهي أممية لم تعبد قط الإله الحي، ولم تقدّم له ذبائح في يوم من الأيام. ليست لها الوعود أو الاشتراع. فصرخت: نعم يا سيّد أنا لا أستحق، لكن ألتجئ إلى نعمتك. أنت لديك فائض من مائدة النعمة فاسمح لي أن ألتقطه. فشُفيت ابنتها من تلك الساعة. كانت المعاملة قاسية ورحيمة، صعبة ولينة. حتى أنها قرّبتها إلى يسوع بل علّقتها به.

هذا النوع من المواقف يربكنا في كثير من الأحيان، لكن الرب يسوع يريد لنا أن نستنتج الاستنتاجات الإيمانية بدل السلبية. هو أحبّنا ويحبّنا، أراد خيرنا ويريده... بموته على الصليب أمّن حاضرنا ومستقبلنا... أعطانا حياة جديدة وسيعطينا أيضاً سماء جديدة. فإن "آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُسْتَعْلَن فينا" (رومية 18:8). هذا الإيمان يصل بنا إلى مرحلة متقدمة، فيها نردّد مع الرسول بولس: "مكتئبين في كل شيء، لكن غير متضايقين، متحيّرين، لكن غير يائسين.. مطروحين، لكن غير هالكين" (2كورنثوس 8:4و9)؛ "كحزانى ونحن دائماً فرحون.. كأن لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء" (2كورنثوس 10:6). نحن نملك الإيمان والثقة والرجاء– نحن نملك المسيح. وهذا يعطينا المجال أن نتخطّى كل الصعاب. نحن نعيش بالإيمان مع الشخص الذي نظنّه بعيداً لكنه قريب.

”الرب قريب، لا تهتموا بشيء بل في كل شيء بالصلاة والدعاء مع الشكر لتُعلم طلباتكم لدى الله. وسلام الله الذي يفوق كل عقل يحفظ قلوبكم وأفكاركم في المسيح يسوع" (فيلبي 6:4و7).

المجموعة: آب August 2005