كانون الأول (ديسمبر) 2005

لقد أشرنا في حلقات سابقة بأن المسيح عاش على الأرض بطبيعتين: طبيعة لاهوتية وطبيعة ناسوتية؛ فبطبيعته اللاهوتية هو الله، وبطبيعته الناسوتية هو إنسان كامل كأي إنسان منّا إنما بلا خطية. إنه الوحيد بين من عاش على الأرض الذي لم يكن فيه خطية، الأمر الذي لم يحظَ به أي نبيّ من الأنبياء، لذلك جاء ليخلص الخطاة، لأنه لا يمكن للخاطئ أن يخلص خطاةً مثله. يقول الإنجيل عن كل بني آدم: ”الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله“، كما يقول: ”الجميع زاغوا وفسدوا معاً. ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد“.

 

قد تسألني: ماذا عن الأنبياء والقديسين؟ حتى الأنبياء والقديسين جميعهم هم من جبلة آدم ولدوا بالخطية وأعوزهم مجد الله. صحيح أنهم صاروا قديسين وصاروا أنبياء بعد توبةٍ ورجوعٍ إلى الله. ولكن، من دفع حساب ما  مرّوا به من أخطاء وخطايا وعيوب؟!  كانت، في الماضي، تُقدَّم الذبائح الحيوانية المسمّاة بالأضاحي التي لم تخطئ، فلماذا تتحمّل تلك خطايا غيرها؟ لقد كانت رموزاً لذبيحة المسيح التي تمّت فيما بعد على الصليب. لهذا جاء المسيح من السماء ورضيَ أن يتجسّد على الأرض وهو ربّ الكائنات، وأن يقدّم جسده ذبيحة كفارية عن كلّ خطايا البشرية؛ ذبيحة لا عيب فيها، ولم يمسسها الشيطان بخطية آدم لأن آدم ليس أباه. وبتقديم ذبيحة المسيح على الصليب قبل ألفَي عام، لم يعدْ للأضاحي الحيوانية من قبولٍ لدى الله. فالمؤمن الذي فتحَ قلبه للمسيح أصبح مغفور الخطايا على حساب دم كريم خال من العيب هو دم المسيح.

هذا هو ملخص مبسَّط وواضح يبيّن لماذا جاء المسيح بهذه الصورة غير العادية؟ ولماذا كان مميّزاً بكلّ ما لحق به من تميّزات فائقة الوصف؟ ولماذا امتلك من القدرات والسلطان ما لا يمتلكه غير الله؟!.. ذلك لأنه هو الله الذي نزل إلى أرضنا، وتجسّد بيننا، وعاش معنا وبيننا قريباً منا؛ عاش مثل غيره من الناس لكن بلا خطية... بلا عيب... بلا شيء يُلام عليه... حتى يصل إلى الصليب كَحَمَل بلا عيب، ويتمِّم الفداء الحقيقي وليس الرمزي لكلّ من يؤمن به ويتوب راجعاً إليه قابلاً فداءه الذي أنجزه على عود الصليب. فهو الله وهو إنسان أيضاً حين كان بيننا على الأرض.

وعندما كان المسيح (الله المتجسِّد) على الأرض، لم يتخلَّ الله عن أرجاء ملكه، ولا غاب عنه، لأن الله لا يحده مكان ولا زمان، ومن يأخذه التساؤل في هذا الشأن ينسى أن الله قادر على كلّ شيء.

أُعطي مثالاً على هذا: عندما التقى الله مع النبي موسى  كليم الله على جبل سيناء وسلّمه الوصايا العشر، فالذي كلّم موسى كان هو الله وليس ملاكاً بين موسى وربه، لذلك سُمّيَ موسى ”كليم الله“ إذ كان يتكلم معه مباشرة. فعندما واجه الله بهيئة نار، ودخان، ورعود، ونور على الجبل غطّى موسى وجهه. فالله في لحظتها ـ مع أنه كان مع موسى يكلّمه ويوصيه، وموسى يتحدّث معه ويكاد يراه من خلال المجد الساطع الذي أمامه ـ لم يكن غائباً عن أطراف خليقته وكونه الفسيح. وكذلك المسيح الرب المتجسّد، فأثناء وجوده بين الناس على الأرض بهيئة إنسان ما غاب عن أرجاء ملكه!

نأتي الآن إلى لقب رابع من ألقاب المسيح نتحدّث عنه لعلاقته بما تقدّم في موضوع هذه الحلقة؛ اللقب هو ”عمانوئيل“، ويتألّف من مقطعين وَرَدا باللغة العبرية في التوراة والكتاب المقدس  الذي تُرجم إلى أكثر من ألفين وخمسمائة لغة ولهجة ولسان، وأبقى المترجمون على الكلمة كما وردت في الأصل العبري في جميع لغات العالم ”عمانوئيل“ والتي معناها ”الله معنا“!

والسؤال الآن: لماذا أُطلق هذا اللقب المترجم ”الله معنا“ على المسيح؟ إن المصدر الذي أعلن هذا الاسم لأول مرة هو سفر إشعياء من أسفار التوراة وفي الأصحاح السابع منه. والحديث هناك يُشير بمنتهى الوضوح إلى مولود العذراء بأنه سيولد بمعجزة ويُسمّى عمانوئيل.. وللعلم فإن زمن هذه النبوة يرجع إلى سبعمائة وأربعين سنة قبل الميلاد، وتقول: ”يعطيكم السيد نفسه آية: ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل“. هذا كان في الأصحاح السابع من سفر إشعياء، فلو انتقلنا إلى الأصحاح التاسع نجد أن الوحي يؤكد من جديد على هوية هذا المولود الذي سمّاه ”الله معنا“. فيقول هناك: ”لأنه يولد لنا ولدٌ ونُعطى ابناً، وتكون الرياسة على كتفه، ويُدعى اسمه عجيباً، مشيراً، إلهاً قديراً، أباً أبدياً، رئيس السلام. لنموّ رياسته، وللسّلام لا نهاية“.

هل تحتاج هذه الكلمات إلى توضيح لهوية هذا المولود الذي سبقه إشعياء بسبمعائة وأربعين سنة، وأشار إلى ولادته من عذراء بولادة معجزية؟ وقد تسأل  يا صديقي: كيف تقولون عن المسيح أنه الله؟ الجواب: لسنا نحن نقول ذلك بل كتاب الله في التوراة.

قد تقول: الكتاب محرّف.

فنقول: التوراة التي تشهد لألوهية المسيح هي كتاب اليهود واليهود يرفضون وجود المسيح رفضاً مطلقاً ويصفونه بأبشع الأوصاف!

 فالسؤال الآن: كيف يسمح هؤلاء بالتحريف ليجعلوا توراتهم تشهد لألوهية المسيح وتؤيد عقيدةً هم يكرهونها ويرفضونها... أين المنطق في هذا؟!!

واضح ممّا تقدّم في هذه الحلقة بأن الوحي شاهد أمين يؤكّد على أن المسيح ـ الله المتجسد ومولود العذراء ـ هو الله معنا الذي جاء إلينا، وظهر لنا بهيئة إنسان، ومشى في دروبنا، وشفى مرضانا، وتحدّث إلينا عن قرب، وأخيراً رضيَ بأن يقدّم جسده الذي تجسّد به على صليب الفداء لخلاص البشرية.

عزيزي القارىء، إن الله معنا... المسيح ما زال معنا من أيّ شعب كنا. ولكن هل أنت معه؟

هل عرفته؟

المجموعة: كانون الأول December 2005