أذار March 2005

الصلاة هي الصلة الشفهية بين الإنسان والله. بيد أن الصلاة ليست دائماً شفهية، ولقد وصف أحدهم الصلاة بقوله:

إن الصلاة منية النفس الخالصة بالنطق كانت أم بالصمت. وإن كانت لنا رغبة ولو ضئيلة للشركة مع الخالق من حين إلى حين، فلا ننسَ أنه يشتاق إلى شركتنا في كل حين وفي كل حالة. "قبلما يدعون أنا أجيب وفيما هم يتكلمون بعد أنا أسمع" (إشعياء 24:65).

 

صلة الصلاة بين الإنسان والله بلغت كمالها في حياة ذلك الذي كان معادلاً لله وكان في الوقت عينه ابن الإنسان.. إنه مخلصنا ومثالنا الأعلى الرب يسوع المسيح. ولنا في خدمة يسوع الشفاعية والابتهالية مثال أفضل من أي وصف أو تعريف لمعنى الصلاة وأهميتها؛ كان بوسع يسوع أن يتكلم مع الآب بلا انقطاع؛ دون عائق أو حاجز بينهما، وليس كما يحدث - ويا للأسف - معنا حينما نشرع في الصلاة والخطية تكتنفنا بسهولة (عبرانيين 1:12). لقد كانت الصلاة لدى المسيح مناجاة مستمرة مع الله، وصفها أحدهم بأنها حديث الابن لأبيه يدور في جو المحبة والثقة المتبادلة (متى 25:11). وقد قيل عن أوغسطينوس إنه اعتاد التفكير والتأمل العميق بشكل المحادثة مع الله.

لنلاحظ رسول اعترافنا ورئيس كهنته وهو يمارس مهمة الصلاة (عبرانيين 1:3):

لقد استهلّ يسوع خدمته العلنية مصلياً في فعل المعمودية (لوقا 21:3، يوحنا 33:1)؛ وإذا بالسماء تنفتح والروح يستقر عليه.

واستمر بعد ذلك في الصلاة والصوم لمدة أربعين يوماً (لوقا 1:4و2) معلماً إيانا درساً عن كيفية التغلب على التجارب (متى 20:17). وفي هذا المجال يتبادر إلى الذهن ما يُروى في (خروج 28:34-35) كيف أن وجه موسى صار يلمع نتيجة لأربعين يوماً مع الرب. فلا ريب أن ما حدث لموسى خادم العهد القديم حدث لوسيط العهد الجديد على أكمل وجه إذ أنه بهاء مجد الله (عبرانيين 3:1). فجمال القداسة إذاً يجري من ينابيع الصلاة.

هناك دلائل وافرة في الأناجيل على أن حياة يسوع كانت حياة نشاط وجهاد شديد وعلى أنه تحمّل باستمرار ضغط الجماهير التي كانت تحتشد حوله. فأيٌّ منا لا يتعب إذا قام بخدمة الوعظ مرتين في الأسبوع، أما يسوع فكان يبشر ويكرز كل يوم. وأي طبيب لا يتعب عندما يعالج عللَ مرضى بحكم مواعيد عيّنها هو؟ أما يسوع فكان يشفي العشرات يوماً بعد يوم دون أي موعد سابق. فلا عجب أن القوة كانت تخرج منه ليس فقط في خلال إجراء معجزاته بل أيضاً في خدمته الشفاعية (مرقس 30:5)، "الذي في أيام جسده إذ قدَّم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات" (عبرانيين 7:5).

لقد سجَّل لنا البشير مرقس فقرة نموذجية في الأصحاح الأول من إنجيله: "فشفى كثيرين... وفي الصبح باكراً جداً قام وخرج ومضى إلى موضع خلاء وكان يصلي هناك" (مرقس 34:1 و35)، وبعد ذلك يمضي ليكرز في القرى المجاورة. من هذا يصح الاستنتاج بأن الصلاة تمثـّل المنطلق الأساسي الذي يتوسط مختلف النشاطات التي قام بها يسوع لصالح الإنسانية: فلا شفاء بلا صلاة، ولا تعليم بلا صلاة، ولا إشباع بلا صلاة، ولا كرازة بلا صلاة (متى 19:14).

ويتكرر هذا المبدأ في الأصحاح السادس من إنجيل مرقس، إذ نقرأ عن معجزة إشباع الجماهير بالأرغفة الخمسة ويليها معجزة المشي على البحر، لكن بين المعجزتين آية بمثابة حلقة وصل، "وبعدما ودعهم مضى إلى الجبل ليصلي" (مرقس 46:6). هذه أيضاً نصيحة هامة لكل نبيه: صلَّ لأجل الذين تودعهم بعدما تخدمهم أو تشهد لهم، وقبلما تنطلق إلى خدمة جديدة. ويذكرني هذا بقول مارتن لوثر أثناء فترة من العمل المنهك: "أنا مشغول لدرجة حتى أنني مضطر أن أقضي أربع ساعات على الأقل في حضرة الله هذا اليوم".

يبدو في حياة يسوع اتزان يجدر بالانتباه. فهو ينطلق إلى العمل ثم ينسحب ليتأمل ويتضرّع.. حاول أن يوحي بهذه القدوة الحميدة لتلاميذه ولنا: "تعالوا أنتم منفردين إلى موضع خلاء واستريحوا قليلاً" (مرقس 31:6). فحياة الصلاة حياة سرية وسبلها لا يتعلمها إلا من يجلس عند قدمي يسوع ويسمع كلامه (لوقا 39:10). لقد كان يسوع يختفي ويختلي في عالم الروح، ويحثّ تلاميذه أن يصلوا في الخلاء أو في الخفاء (متى 6:6).

لننظر إلى معلمنا مرة أخرى وهو يواجه قراراً خطيراً في اختيار الاثني عشر ليصيروا أركان الكنيسة في أيام فجرها وفخرها. أجل، إنه لم يتَّخذ القرار جزافاً بل تصاعدت الصلوات طوال الأشهر السابقة، وفضلاً عن ذلك نقرأ عن ليلة كاملة قضاها في الصلاة (لوقا 12:6و13). إن الصلوات الخاصة في المناسبات الطارئة يجب أن تكون ضمن نطاق الممارسة المتواصلة، وهكذا تنجح.

ويوماً، "وإذ كان يصلي في موضع، لمّا فرغ، قال واحد من تلاميذه: يا ربّ، علمنا أن نصلي" (لوقا 1:11). وعليه فإن حياة الصلاة هي خير دعوة إلى الصلاة وهي أفضل من أي تحدٍّ أو تحريض أو توبيخ يوجِّهه المؤمن لأخيه المهمل. إذاً، كان يسوع يصلي على انفراد، ويصلي مع تلاميذه المقربين، كما جاء في حادثة التجلي حيث اجتمع ثلاثة من تلاميذه، وكان الرب بينهم، وأظهر لهم جماله وبهاءه. وكان يصلي مع زمرة التلاميذ أيضاً أمام الجماهير وحتى في الهيكل. فالصلاة مع التلاميذ تعتبر صلاة عائلية لأنهم إخوته وأولاده (عبرانيين 11:2-13). وكلما يجتمع اثنان أو ثلاثة تضرم صلاة الواحد ناراً في قلب الآخر، أما الأساس فهو الصلاة الفردية.

وفي الأسبوع الأخير - قبل صلب الفادي - حين كانت الأزمة تهدد القطيع الصغير والراعي الصالح، كان الشيطان يطلب أن يغربل سمعان وزملاءه (لوقا 32:22). والرب يطلب أيضاً، ولكن طلبته تختلف كل الاختلاف عن طلب الشيطان، لأن الشيطان يريد لنا الفشل واليأس حتى نجدف على الله ونموت (أيوب 9:2، حسب الأصل العبري) وقد أدرك غايته نوعاً ما في قضية بطرس الذي بعدما أنكر سيده جعل يلعن ويحلف.

أما يسوع فيصلي كي لا يزول إيماننا وهو يدعونا إلى الصلاة المستمرة حتى نثبِّت بدورنا إيمان إخوتنا الضعفاء والمعرضين لشتى التجارب.

وإن المسيح الذي صلى طيلة حياته كان يصلي أيضاً في ساعات احتضاره. ولا شك أنه قضى كل لحظة – وهو معلق على الصليب - في حالة الصلاة. وقد حفظ لنا البشيرون الأربعة كلماته السبع في تلك الأزمة التاريخية:

الأولى صلاة غفران، يشفع المخلص في أعدائه: "يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لوقا 34:23) واستجاب الآب لهذه الطلبة بطريقة مدهشة بعد يوم الخمسين، إذ نقرأ أن جمهوراً كثيراً من الكهنة أطاعوا الإيمان (أعمال 7:6). والرابعة أي "المتوسطة" وردت كما نطقها يسوع بلغته الدارجة، أي الآرامية "الوي الوي لما شبقتني" (متى 46:27)، بابتهال من أعماق قلبه وآلامه، يؤكد به للبشرية المعذبة أن لا حزن مثل حزنه (مراثي إرميا 12:1). أما السابعة والأخيرة فهي صلاة استيداع، يسلم روحه للآب في الموت كما قدم جسده في الحياة.

وموجز القول هذا إن الرب يسوع لم يُقْدِم على خطوة خطيرة إلا واستعد لها بالصلاة، وأنه مارس الصلاة لا سيما في مراحل النشاط المرهق والتجربة العنيفة، وأنه صلى على أثر الأزمات كما صلى قبل حدوثها.

المجموعة: أذار March 2005