تشرين الثاني (نوفمبر) 2005

عرفت بعضاً من المؤمنين الأقوياء الذين لهم صلوات مقتدرة قوية، ترتفع إلى السماء بقوة صاروخية، وكنت أتحير ما سر قوة هؤلاء المؤمنين؟ وأخيراً عرفت السر، إنهم اشتروا قوة الصلاة بالألم، ووصلوا إلى تلك المرحلة بعد أن محصهم الله في بوتقة الضيقات والانكسار.

 

وعرفت أيضاً كثيرين لا يصلّون بالمرة لعدم اقتناعهم بوجود الله العادل، وإذا صلّوا فهم أشبه بالمذراة التي تذرّي القمح فلا ترتفع صلواتهم إلا بقدر ما ترفع المذراة حبوب القمح عن الأرض، وذلك لأنهم رفضوا دفع تكلفة الصلاة القوية.. وهو قبول الآلام التي يسمح الله لنا أن نجتازها سواء كان عن طريق فشل، أو خسارة، أو مرض، أو ضيق أيا كان. فالبعض عاش على حافة الصلاة، وبقي طويلاً على الحدود المتاخمة لحياة الصلاة القوية، حتى اختبر مأساة أو كارثة في حياته تتمثل في خسارة شخص عزيز، أو أموال، أو ممتلكات، أو أي شيء محبوب لديهم. ثم قادتهم تلك المأساة إلى حياة الصلاة العميقة التي تصدر من قلب يائس معترف بعدم قدرته على مواجهة الموقف بقدرته وإمكانياته الشخصية والعقلية والجسمانية، بعد أن طرق كل الأبواب ووجدها موصدة تماماً، ولم يجد إلا باب الله الوحيد المفتوح ليطرقه ويطلب منه المعونة.

ولنأخذ مثلاً من الكتاب المقدس، إنه والد الطفل الذي كان يصرعه روح شرير. ولنقرأ جزءاً من تلك الحادثة كما وردت في إنجيل مرقس: ”فقدّموه إليه. فلما رآه للوقت صرعه الروح، فوقع على الأرض يتمرغ ويزبد. فسأل أباه: كم من الزمان أصابه هذا؟ فقال: منذ صباه. وكثيراً ما ألقاه في النار وفي الماء ليهلكه. لكن إن كنت تستطيع شيئاً فتحنّن علينا وأعنّا. فقال له يسوع: إن كنت تستطيع أن تؤمن، كل شيء مُستطاع للمؤمن. فللوقت صرخ أبو الولد بدموع وقال: أؤمن يا سيد، فأعن عدم إيماني. فلما رأى يسوع أن الجمع يتراكضون، انتهر الروح النجس قائلاً له: أيها الروح الأخرس الأصمّ، أنا آمرك: اخرج منه ولا تدخله أيضاً! فصرخ وصرعه شديداً وخرج، فصار كميت، حتى قال كثيرون: إنه مات. فأمسكه يسوع بيده وأقامه، فقام. ولما دخل بيتاً سأله تلاميذه على انفراد: لماذا لم نقدر نحن أن نخرجه؟ فقال لهم: هذا الجنس لا يمكن أن يخرج إلا بالصوم والصلاة“ (مرقس 20:9-29).

لقد صرخ هذا الأب بدموع من فرط عذابه ويأسه. فالآباء الآخرون يرون أولادهم يكبرون، وينضجون، وينجحون، وهذا الأب المكلوم لا يرى إلا معاناة ابنه. الآباء الآخرون يعلِّمون أولادهم حرفة في ذلك الوقت، لكن هذا الأب يترك أعماله وحاجاته ليراقب ابنه طول الليل والنهار حتى يستطيع أن يحافظ على حياته. فهو تحت الطلب أربعة وعشرين ساعة يومياً. إنه العذاب بعينه.. لذلك صرخ بدموع كما يذكر الكتاب. إن كلماته وصلواته لا تخرج من قلب أسدٍ جسور، ولكن من مشاعر حمل جريح. إنها كلمات ليست فصيحة، لكنها بسيطة. ولكونها حقيقية فهي عميقة. إنها تخرج من قلب معذَّب متألم يائس، وهنا تبدأ الصلاة الفعالة. إنها تذكِّرنا أيضاً بشخص آخر نستنتج أنه كان معذباً من الخطية فقرع على صدره قائلاً: ”اللهم ارحمني أنا الخاطي“. عندما نصلي يتأثّر الله بجروحنا وليس بفصاحتنا!

وهنا نذكر ما حدث مع الأب جيم ردموند وابنه ديريك في أولمبياد برشلونة 1992، عندما انهار ”ديريك“ داخل مضمار الجري، مصاباً بتمزّق في أربطة الركبة، ثم قام يقفز على قدم واحدة. وهنا اندفع جيم ردموند من بين الجماهير لابساً ”تي شيرت“ مكتوباً عليها: ”هل حضنت ابنك اليوم؟“ وسأل ابنه: هل تريد أن تكمّل السباق؟

وكانت الإجابة: نعم.

فقال الآب: إذن سنكمّله معاً.

وصفّقت الجماهير للابن وصفّقت أكثر للأب الذي أنهى السباق مع ابنه!

ما الذي دفع الأب إلى النزول إلى مضمار السباق؟ إنه ”الألم“ الذي يعانيه الابن.

الله أيضاً سيفعل معنا نفس الشيء! الآلام التي نكابدها تجعله يشقّ السموات وينزل لمعونتنا! وهذا تماماً ما اكتشفه النبي إشعياء قديماً فسأل سؤالاً استفهامياً عرضه النبي وأجاب عليه قائلاً: ”أتسكت وتُذلُّنا كلّ الذلّ؟“ وأجاب: ”ليتك تشقّ السموات وتنزل“ (إشعياء 64)، وقد حدث.

المجموعة: تشرين الثاني November 2005