تشرين الثاني (نوفمبر) 2005

تعرّف صديقي على المسيح واختبر الولادة الجديدة منذ زمن بعيد. وقتها امتلأت حياته بالبركات، ومضى ينمو في الإيمان بصورة ملحوظة أذهلت إيجابياً كل المحيطين به، وتمنى بل وتوقع الكثيرون - لصديقي هذا - حياة ممتلئة بالبركة ومجد الله واستخدامه له، وهذا ما حدث بالفعل.

 

بعد تخرّجه من الجامعة دعاه الرب لخدمته، فقبل الدعوة مسروراً، وانطلق يخدم الرب بكل حماسة الشباب ونقاء القلب والسريرة.

تنقَّل بين أكثر من مجال للخدمة. كانت محبته للرب هي معظم مؤهلاته. وأضافت له الخدمة الميدانية جمالاً فوق جماله، وخبرة حياتية رائعة لا غنى عنها للخادم المسيحي الحقيقي.

لسنوات طويلة اكتوى بنار الخدمة وبركتها.. نعم، فللخدمة نار إنما هي نار مقدسة، ونار الخدمة هي نفسها بركتها، إنها نار حمل الصليب وتحمّل الآلام في التمخُّض بالنفوس، حتى يصل الخادم بهم لبر الأمان في معرفة الفادي والمخلص.

أمرٌ واحدٌ أرَّق صديقي وأقضَّ مضجعه: إنه العثرات في وسط الخدمة! وهذا ما لم يكن أبداً مستعداَ له!

لم يكن صديقي يتوقّع أن يرى في وسط الخدمة إلا الخدام الأمناء والمكرسين، وفي الكنيسة إلا المؤمنين القديسين، وفي الحقول إلا الحنطة دون الزوان، وفي الشبكة المطروحة في البحر إلا نوعاً واحداً من الأسماك، وفي أنواع التربة إلا الأرض المثمرة.

"لكن ليست هكذا الدنيا يا صديقي"! هكذا قلت له وأنا أحاول أن أهوِّن عليه الأمور، وآخذ بيده في ضعفه، وأعينه حتى يرى الأمور على حقيقتها.

قال لي والدموع تترقرق من عينيه تأثّراً، والكلام محبوس في حلقه بمرارة يأبى معها أن يخرج إلا بصعوبة بالغة: "ليس هذا ما تصوّرته، وليس هذا ما ينبغي أن يكون، لماذا يسمح الله بكل هذا؟! لماذا صارت الخدمة عند البعض تجارة؟! أين الله من هذا كله؟ لماذا؟"

وقاطعته قبل أن يطرح مزيداً من الأسئلة، وقبل أن يستطرد في توجيه الاتهامات واللوم إلى الله، حتى ولو كان من قلب مخلص أمين.

قلت له: بل هذا هو الطبيعي والمتوقَّع، أنت الذي بنيت حياتك على تصوُّراتك".

قال لي: إن الجرح من غير المؤمنين عادي ومتوقع، أما من المؤمنين والخدام فلا!

قلت له: هو جُرح في بيت أحبائه، فهل أدركت هذا المعنى وتعمّقت فيه؟ هو ــ مع كونه ابناً ــ تعلّم الطاعة وتدرّب عليها مما تألم به، وهو درس ثمين يجدر بنا نحن أيضاً أن نتعلمه كسيِّدنا، ويا ليتنا ــ أنا وأنت ــ نتعلّم هذا الدرس. هو حدثنا عن إنكار النفس وحساب نفقة تبعيته، من حمل للصليب، وتحمُّل الألم والمصاعب بصبر بل وبفرح! والمعاناة - يا صديقي - إن أتت من حيث نتوقّعها لما صارت معاناة! والألم - يا عزيزي - إن أتى من غير الأحباء سيكون غير مؤلم"!

أشفقت على صديقي الخادم من الصراع الذي يمرّ به، كنت أعلم مدى المعاناة التي يجتازها في مفترق طرق: يكون أو لا يكون!! ودَّعته وأنا أصلي أن يعطيه الرب عوناً، ويرفع نفسه حتى لا ينظر إلا إلى الله، ولا يتوقّع تشجيعاً إلا من لدن القدير. وتضرّعت إلى الله حتى يشدّده ليكمّل المسير.

إن الحياة المسيحية الحقيقية هي حياة معاناة فانتصار! ألم وبركة! زرع بدموع وحصاد بفرح!

لم ولن يكون أبداً طريق الخدمة مفروشاً بالورود والرياحين! بل الأقرب إلى الواقع، إنه ممتلئ بالأحجار والأشواك مع النعم والبركات!

فيا من اخترت طريق الخدمة، تعلّم كيف تكون كسيدك، وتدرّب أن تحيا مثله. وعندما تضيق بك الأحوال والظروف، لا تسمح لقلبك أن يحمل لأحد ضغينة أو مرارة، بل ارفع عينيك إلى السماء حيث النور والنقاء والصفاء، وردد مع الرسول بولس هذه الكلمات:

"بل في كل شيء نظهر أنفسنا كخدام الله، في صبر كثير في شدائد في ضرورات في ضيقات، في ضربات في سجون في اضطرابات في إتعاب في أسهار في أصوام، في طهارة في علم في أناة في لطف في الروح القدس في محبة بلا رياء، في كلام الحق في قوة الله بسلاح البر لليمين ولليسار، بمجد وهوان بصيت رديء وصيت حسن، كمضلين ونحن صادقون، كمجهولين ونحن معروفون، كمائتين وها نحن نحيا، كمؤدبين ونحن غير مقتولين، كحزانى ونحن دائما فرحون، كفقراء ونحن نغني كثيرين. كأن لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء" (2 كورنثوس 4:6-10).

المجموعة: تشرين الثاني November 2005