تشرين الثاني (نوفمبر) 2005

يتكلم الكتاب المقدس عن ثلاث مراحل للعالم. ومن المعروف أن كلمة ”العالم“ ترد في الكتاب المقدس بمعانٍ مختلفة يُمكن فهم كلٌّ منها بسهولة من القرينة. فأحيانا تعني ”الكَوْن“، أي الخليقة، كما جاء في (عبرانيين 3:11): ”بالإيمان نفهم أن العالمين أتقنت بكلمة الله، حتى لم يتكوَّن ما يرى مما هو ظاهر“. وفي قوله عن المسيح: ”الذي به أيضاً عمل العالمين“ (عبرانيين 2:1). وأحياناً تعني الجنس البشري، كما جاء في الآية الشهيرة: ”لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية“ (يوحنا 16:3).  وأحياناً تعني أسلوب ونظام هذا العالم ومبادئه، أي الجنس البشري في موقفه إزاء الله وإزاء الوجود على هذه الأرض. هذا هو ”العالم“ الذي يقول عنه الرسول يوحنا: ”لا تحبّوا العالم ولا الأشياء التي في العالم... لأن كل ما في العالم شهوة الجسد، وشهوة العيون، وتعظُّم المعيشة“ (1يوحنا 15:2-16).

 

وهذا الموضوع يتعلق بتاريخ الإنسان على هذه الأرض، كما يراه الله وليس كما يراه المؤرخون البشر. بخصوص هذا العالم، أي تاريخ الإنسان على الأرض، يتكلم كتاب الله المقدس عن ثلاث مراحل:

أولاً: عالم ما قبل الطوفان

يقول عنه الرسول بطرس: ”اللواتي بهنّ العالم الكائن حينئذ فاض عليه الماء فهلك“ (2بطرس 6:3).

ثانياً: العالم الكائن الآن

أي منذ الطوفان وإلى أن يأتي المسيح ليملك على هذه الأرض. وهو العالم الذي يصفه الوحي المقدس بأنه ”العالم الحاضر الشرير“ (غلاطية 4:1).

ثالثاً: العالم الآتي

يقول عنه الكتاب: ”فإنه لملائكة لم يُخضع العالم العتيد [في المستقبل] الذي نتكلم عنه“ (عبرانيين 5:2). ويخبرنا أنه سيُخْضَع ليسوع الذي ”نراه مكللاً بالمجد والكرامة“ (عدد 9). وهذا العالم العتيد يبدأ بمجيء المسيح الثاني ليملك كملك الملوك ورب الأرباب، وينتهي بالقضاء النهائي على الشر وطرح إبليس في جهنم النار ودينونة العرش العظيم الأبيض، ثم الحالة الأبدية.

والآن سنتكلم عن العالم الماضي، عالم ما قبل الطوفان، أي العالم الذي ”فاض عليه الماء فهلك“. ابتدأ تاريخ ذلك العالم بآدم وحواء اللذين بهما ”دخلت الخطيئة إلى العالم وبالخطيئة الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع“ (رومية 12:5). ووُلد لآدم وحواء ابن اسمه قايين وآخر اسمه هابيل ”وكلم قايين هابيل أخاه. وحدث إذ كانا في الحقل أن قايين قام على هابيل أخيه وقتله“ (تكوين 8:4). من ذلك نرى أن العالم الذي هلك بالطوفان اتصف بالعصيان والإجرام من أوله. وازداد الشر جداً، ”ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، وأن كل تصوّر أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم. فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض، وتأسَّف في قلبه“ (تكوين 5:6-6). إن الله ليس إلهاً لا يبالي. فهو خلق الإنسان على صورته وكشبهه. ولكن الخطيئة شوّهت هذه الصورة. وبعد أن كان الرب قد سلَّط الإنسان على الأرض والبحر، أصبح الإنسان غير صالح لهذا الأمر وغير نافع. ”فقال الرب: أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته: الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء. لأني حزنت أني عملتهم“ (تكوين 7:6).

ومع ذلك فإن الله لم يهلكه في الحال، بل أعطى الإنسان مدة 120 سنة كان فيها نوح، الذي وجد نعمة في عيني الرب، يكرز للناس وينذرهم. ولكن للأسف لم ينجُ إلاّ ثمانية أشخاص.

لمدة 120 سنة كان نوح ”كارزاً للبر“، ولكن ماذا كانوا يعملون؟

”كانوا في الأيام التي قبل الطوفان يأكلون ويشربون ويتزوَّجون ويزوِّجون إلى اليوم الذي دخل فيه نوح الفلك، ولم يعلموا حتى جاء الطوفان وأخذ الجميع“
(متى 38:24-39).

بعض صفات العالم الماضي، عالم ما قبل الطوفان، العالم الذي فاض عليه الماء فهلك:

   أولاً:  اتصف ذلك الدهر بطول الأعمار كما هو واضح في تكوين 5. إذ كانوا يعيشون مئات السنين، فعاش بعضهم 800 أو 900 سنة أو أكثر. وقد يندهش البعض من هذا. ولكنه كان أمراً لازماً لسببين على الأقل:

السبب الأول هو لتتميم الهدف الإلهي أن يثمروا ويكثروا ويملأوا الأرض، كما جاء في (تكوين 28:1)، وعلَّق البعض على هذا بالقول: إن هذه هي الوصية الوحيدة التي أطاعها الإنسان، فلم يكونوا فقط طوال الأعمار، ولكنهم ”ولدوا بنين وبنات“ خلال مئات السنين التي عاشها كلٌّ منهم كما يخبرنا في تكوين 5.

والسبب الآخر الذي من أجله أعطاهم الله الأعمار الطويلة هو لكي تنتقل الشهادة شفوياً من جيل لآخر، أي لكي يشهد الجيل الأول مراراً كثيرة - خلال السنين الطويلة التي عاشوها - بما رأوه وسمعوه للجيل الذي يليه. فمثلاً، كان متوشالح معاصراً لآدم حوالي 200 سنة، كما كان معاصراً لسام ابن نوح لحوالي 100 سنة. ومات متوشالح قبل الطوفان مباشرة، أما سام فعاش بعد الطوفان 500 سنة (تكوين 11:11) وكان معاصراً لإبراهيم خليل الله طوال حياة إبراهيم (راجع تكوين 10:11-26). ولهذا كله أهمية واضحة، إذ لم يكن عندهم وحيٌ مُدوَّن، أي لم يكن أي جزء من الكتاب المقدس قد كُتب بعد، فكانت الشهادة الشفوية بواسطة شهود عيان لازمة جداً. لذلك نجد في الآثار قصة الطوفان عند شعوب وثنية، ولعل أشهرها ما جاء في الآثار البابلية، إذ فيها شَبَهٌ كبير للحقيقة مع بعض التشويش.

   ثانياً:    لم يكن ذلك العصر بدون حضارة كما يظن البعض. فبعد أن طُرد قايين من وجه الرب وصار ”تائهاً وهارباً في الأرض“ (تكوين 14:4)، أنجب ابناً اسمه حنوك وبنى مدينة ”ودعا اسم المدينة كاسم ابنه حنوك“ وبناء مدينة هو لا شك لازم للحضارة. وجاء من سلالته من قاموا بالنجارة والصناعة والموسيقى كما جاء في (تكوين 20:4-22).

   ثالثاً:    جاء تعدد الزوجات بواسطة لامك الذي من نسل قايين، وازداد الشر إلى أن بلغ أقصى حدوده في أيام نوح حتى قرر الله أن يرسل الطوفان ليهلك الأشرار كما رأينا، ولكن ذلك العالم اتصف بعدم المبالاة كما ذكرنا.

تعليق

كان الأجدر بالجنس البشري أن يجد في الطوفان عبرة، ولكن للأسف الشديد دخلت الخطيئة مرة أخرى بعد الطوفان مباشرة. وتجاهل الناس حادثة الطوفان أو تناسوها أو أنكروا حقيقتها. فكانت النتيجة ما نراه في عالمنا الحاضر الشرير. وهذا سيكون موضوعنا في المرة القادمة بإذن الرب.     

المجموعة: تشرين الثاني November 2005