تشرين الثاني (نوفمبر) 2005

”وكانت المياه تنقص نقصاً متوالياً إلى الشهر العاشر. وفي العاشر من أول الشهر، ظهرت رؤوس الجبال“ (تكوين 5:8).

 في الأصحاح السابق،ننجد أن الطوفان بدأ حين كان نوح ابن ست مائة سنة. وفي الأصحاح الثامن والعدد الثالث عشر نجد أن الطوفان توقّف وأن المياه جفت، في السنة الواحدة بعد الست مئة في الشهر الأول في أول الشهر من حياة نوح.

 

أي أن هذا الطوفان استمر عاماً كاملاً؛ بدأ حين كان عمر نوح ست مائة عام وانتهى لما كان عمره ست مائة وواحد من الأعوام. والشهر العاشر هنا يقابل شهر يناير عندنا. وإذ يقول: في الشهر العاشر في أول الشهر ظهرت رؤوس الجبال، يمكننا أن نقول: في مستهل العام الجديد ظهرت رؤوس الجبال.

ونعلم أن الله أمر نوحاً أن يبني فلكاً لأنه كان مزمعاً أن يُنزل قضاءه على العالم الشرير بطوفان يغرق ويدمِّر. وأطاع نوح أمر الله وبنى فُلكاً. كان القوم يسخرون منه أثناء بنائه... وأدخل الله نوحاً وبنيه وزوجاتهم، وأدخل معهم عينات من الحيوانات، وأغلق الله الفلك عليهم ونزل الطوفان... ثم مرت الأيام وتعاقبت الليالي حالكة السواد. كان ينظر نوح من الطاقة التي في الفلك، اليوم تلو الآخر، ولكنه لم يكن يرى إلا مياهاً من حوله.. الغمر يحيط بالفُلك من كل جانب... لا نجاة!!

وفي الشهر العاشر، في أول الشهر ظهرت رؤوس الجبال. رأى نوح رؤوس الجبال تطل فوق المياه في مستهل العام. وعرف أن هذه الجبال تحدثه بأن النجاة أصبحت قريبة. هذه الجبال جاءت مؤكدة لنوح أن الله محبة... جاءت هذه الجبال لكي تشجع نوحاً وعائلته داخل الفلك، وتعرفهم أن الله لم ينسهم ولن ينساهم. لذلك يبدأ هذا الأصحاح الثامن من سفر التكوين: ”ثم ذكر الله نوحاً“، وهو استخدام للغة البشرية في الحديث عن الله. وهكذا يؤكد الله لنوح ولنا، أن الله الذي كان يذكر نوحاً طول الوقت، أعلن ذكره له - أعلن عنايته به، وأظهر لنوح رؤوس الجبال.

جبل الصعود والعودة

هذا الجبل هو جبل الزيتون. من على هذا الجبل صعد المسيح لا ليبتعد عنا بل ليكون ألصق إلينا. صعد لا لكي يتركنا بل لكي يشفع فينا. لكي يمثلنا في المجد، ووعد قبل صعوده أنه سيأتي ثانية. قال الملاكان للتلاميذ: ”ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء؟ إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقاً إلى السماء“ (أعمال 11:1). إن كنت تشك لحظة أن الله نسيك... تعال معي وألقِ نظرة على رأس ذلك الجبل.

ولكن كيف نرى هذه الجبال؟

كما يظهر في هذا الحادث الذي ذكرناه عن نوح في تكوين 8، هناك ثلاثة شروط لرؤية رؤوس الجبال:

1- ينبغي أن نكون داخل فلك

الذين هم خارج الفلك ماتوا تحت المياه غرقاً. الفلك يرمز إلى المسيح فلك النجاة في العهد القديم. فلكي نرى جبل الرجاء والمحبة علينا أن نكون في المسيح، أن نكون قد خرجنا من دائرة العالم ودخلنا دائرة الفلك... دائرة المسيح. خارج الفلك لا نرى جبالاً، ومن داخل الفلك نستطيع أن نتطلع إلى جبل الرجاء.

2- أن نكون في أراراط.

كان الفلك على جبل ”أراراط“، ومعنى ”أراراط“ الأرض المقدسة. ولكي نرى جبالاً ظهرت لا بد أن نكون في حالة مقدسة. والقداسة تعني أن نفسح المجال لروح الله لكي يقدسنا، لا بمحاولاتنا ولا بجهدنا، ولكن بأن نترك لله أن يقدسنا بروحه. ونحن في أراراط في أرض مقدسة، ونحن نكرس أنفسنا للمسيح، نرى رؤوس الجبال واضحة... بهذه القداسة نرى الله: ”طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله“.

3- أن نكون نحن أنفسنا على جبل

كان الفلك على جبل أراراط - من فوق الجبل نرى قمم الجبال، ولكن إن كنا في سفح الجبل فلن نرى قمم الجبال - الذي صعد إلى أعلى وتطلع من الطاقة رأى قمم الجبال. لم يُقصد لنا كمسيحيين أن نزحف على الأرض، وإنما قُصد لنا أن نحلق فوق الجبال.

في رؤيا 10:21 يقول: ”وذهب بي بالروح إلى جبل عظيم عالٍ وأراني المدينة العظيمة أورشليم المقدسة نازلة من السماء“.

كان لا بد أن يصعد الرائي إلى جبل عال عظيم ليرى المدينة المقدسة. في ذات السفر الأصحاح 13 يقول: ”ثم وقفت على رمل البحر [لم يرَ المدينة المقدسة] رأيت وحشاً طالعاً من البحر“. ما أكثر الوحوش التي نراها حولنا لأننا نعيش على رمل البحر، وما أقل ما نرى المدينة المقدسة لأننا لا نعيش فوق قمم الجبال... دعونا نصعد. وقد قصد الله أن نكون في قمة الفلك فوق جبل أراراط، ومن هناك نلقي نظرة واضحة ولا نرى أحداث اليوم وكأنها تقيدنا، ولكننا نرى أحداث اليوم في ضوء أحداث الماضي وفي نور انتصار المسيح في المستقبل.. دعونا نتطلع إلى جبل الجلجثة لنختار المسيح، لنتطلع إلى جبل الموعظة والمواعيد، جبل الانتصار في المسيح، ولنتطلع إلى جبل العودة عودة المسيح إلينا، جبل الانتظار لمجيء المسيح.

يذكرنا الله أننا لو نظرنا من طاقة الفُلك سوف نرى رؤوس الجبال قد ظهرت، وأن رؤوس الجبال هذه تشجعنا وتشددنا وتطمئننا، وتؤكد لنا أن الله معنا وأن النجاة على الأبواب.

المياه التي أغرقت

لنتأمل أولاً في المياه المغرقة التي أحاطت بالفلك والتي جعلت بعضنا يتصوّر أن الله نسينا.

مياه الألم

أحياناً يحيط الألم بشخص، حين يفقد عزيزاً أو حين يجتاز أزمة. ويتحير المرء منا أمام هذا الألم. ترى لماذا يختصني بهذا الألم؟ وإن كان الأمر كذلك فأين محبته؟ أم إنه لا يقدر أن يرفع عني الألم؟ وإن كان الأمر كذلك فأين قدرته؟ فوقوع الألم عليّ يجعل فكرة  أن الله لا يحبني تراودني أو أنه لا يساعدني. ويبدأ المرء منا في أزمة الألم يتصوّر، إما أن الله غير موجود، أو إنه إله لا يبالي أو إله عاجز.

لقد اجتاز بولس الرسول اختبار ألم شوكة في الجسد، لكن بولس الرسول عرف أن هذه الشوكة تحدثه بقدرة الله التي لم يكن ليعرفها بغير هذه الشوكة، لأن الله قال له: ”تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تُكمل“... في ضعفك، في ألمك، أظهر قوتي أكثر من أي وقت آخر. ويردّ بولس على ذلك بالقول: ”فبكل سرور أفتخر بالحري في ضعفاتي لكي تحل عليّ قدرة المسيح. لذلك أُسرّ بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح، لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي“. مياه الألم أحياناً تحيط بفُلك حياتنا وتوهمنا بأن الله قد نسينا.

مياه خيبة الأمل

كنا نضع ثقتنا في إنسان.. كنا نضع ثقتنا في حدث معين.. كنا نضع آمالنا في مشروع معين.. فإذا بهذا الإنسان قد خذلنا، وبذلك المشروع وقد فشل، وإذا   بخيبة الأمل تدخل إلى أعماقنا وتحاصرنا محاصرة المياه لفلك نوح. ونظن أن الله قد نسينا. أحسّ بهذا الإحساس موسى قديماً. موسى درَّبه الله في بيت فرعون. أعطاه من الحكمة والعلم ما يؤهله أن يقود شعبه خارج أرض العبودية، وخرج موسى بهذا الإعداد كله معتقداً أن الأمر هين. وبدأ يعدّ العدة؛ وفي يوم ما رأى مصرياً وإسرائيلياً يتشاجران، فانتصر للإسرائيلي وقتل المصري. وفي اليوم التالي رأى إسرائيليين يتشاجران، فحاول أن يفصل بينهما ويا لخيبة الأمل.. هذا الشعب الذي كان يعدّه  الله لكي يقوده، إذا بهذا الشعب يتنكّر له، فأصيب موسى بخيبة أمل عظيمة. وخرج إلى أرض بعيدة في أرض مديان، وقضى أربعين سنة هناك. مياه خيبة الأمل قد تدخل أعماقنا وتحاصرنا محاصرة المياه لفلك نوح، ونتصوّر أن الله قد نسينا.

مياه الوحدة

يحس المرء بالوحدة حين يفقد شريكاً له في الحياة، أو حين ينتقل إلى مكان غريب عنه. وقد يحسّ بالوحدة أحياناً، وهو يعيش في وسط الناس. ولعل أكثر الأماكن التي نحسّ فيها بالوحدة هي الزحام - حين نكون في زحمة مع الناس لكننا منفصلون عنهم - موجودون في وسطهم جغرافياً ومادياً ولكن الشركة مفصولة بيننا وبينهم. وقد نحس بذات الشعور نحو من يعيشون معنا في بيوتنا! وهنا يتصوّر الإنسان أن مياه الوحدة التي تحاصره تعلن أن الله قد نسيه، لكن الله معه في وحدته ووحشته يقويه ويشدده.

وتوجد مياه أخرى كثيرة تغرقنا في آلامنا وأحزاننا ونتصوَّر أن الله نسينا. ويكفينا هذا القدر من التأمل في ”مياه أغرقت“، ولنخرج من هذا الجانب المظلم إلى الجانب المضيء لنتأمل في رؤوس جبال وقد ظهرت في مستهل العام. وبينما مياه تحاصر الفلك، نتطلع إلى العلاء فنرى رؤوس جبال قد ظهرت، لتعلن لنا أن المياه انحصرت وأن النجاة على الأبواب.

رؤوس الجبال التي ظهرت

أي جبال هذه هي التي تؤكد لنا أن الله لا يمكن أن ينسانا.. بل تؤكد لنا أن الله كما ذكر نوحاً يذكرنا؟!!

جبل الجلجثة

إن راودك في وقت من الأوقات فكر يقول: إن الله قد نسيك، فارفع عينيك إلى جبل الجلجثة وسوف ترى هناك ابن الله معلّقاً على الصليب لأجلك، وسوف يتحدّث لك هذا الجبل قائلاً: الذي لم يشفق على ابنه من أجلك كيف يمكنه أن ينساك؟ أيمكن أن الله المحبة الذي أحبّك فضلاً.. الذي أحبك وأنت في الكورة البعيدة.. أيمكن أن مثل هذا الإله ينساك؟!! إن كنت تشك أنه لا يحبك أو أنه لا يذكرك، تعالَ معي نلقـي نظـرة إلى جبل الجلجثة، لنرى شخصاً معلقاً على الصليب بين لصين. ولنسأل: لمن هذا؟ ولمن صُلب هذا؟ يكفينا الجواب إن هذا هو الله الذي أخلى نفسه، آخذاً صورة عبد، صائراً في شبه الناس، وإذ وُجد في الهيئة كإنسان أطاع حتى الموت موت الصليب... لماذا؟ لأجلك ولأجلي... ”هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية“. إنه أحبك محبة شخصية. أيمكن بعد ذلك أن ينساك؟ تطلع من الطاقة لترى رأس جبل الجلجثة واضحاً ومؤكداً لك محبة الله، ومعلناً لك أن الله معك وأن المياه ستجف.

جبل المواعيد والموعظة

ذلك الجبل الذي اعتلاه المسيح وقدّم من فوقه أجلّ وأجمل العظات، وأعظم المواعيد وأصدقها. دعونا نتأمل في بعض ما يحدّثنا هذا الجبل:

”لذلك أقول لكم: لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا لأجسادكم بما تلبسون. أليست الحياة أفضل من الطعام، والجسد أفضل من اللباس؟ انظروا إلى طيور السماء: إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن، وأبوكم السماوي يقوتها. ألستم أنتم بالحري أفضل منها؟“ (متى 6).

ونسمع قول المسيح: ”تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم“. إن جبل المواعيد والموعظة يؤكد لنا أن الله لا يمكن أن ينسانا.

يوجد في الكتاب المقدس 3300 وعد وكلها صادقة.

وردت عبارة ”لا تخافوا“ 365 مرة، أي في كل يوم من السنة يطمئننا الله ويشجعنا. ما أعظم هذا الوعد وهذا الإحساس ونحن ندخل العام الجديد، ونقابل كل الصعاب. نحن نطمئن أن المسيح معنا، يشدّدنا ويقوّينا.

المجموعة: تشرين الثاني November 2005