تشرين الثاني (نوفمبر) 2005

في حلقات سابقة تناولنا مصطلحَين لازما المسيح وعرّفا به، هما: ابن الله وابن الإنسان. وأوضحنا في ما أوضحناه أن بنوّة المسيح لله لا تعني البنوّة بمفهومها الجسدي المتعارَف عليه بين الناس، بل أنه هو ابن الله لأنه من ذات الله الذي جاء متجسداً وتراءى بين الناس كإنسان من دمٍ ولحم، ولذلك سُمّي أيضاً بابن الإنسان لأنه وُلدَ من فتاة عذراء طاهرة لم يسبقها أي نوع من العلاقة أو الملامسة الجنسية بين ذكرٍ وأنثى.

 

وقلنا حينها إن السماء هي التي أطلقت على المسيح هذا الاسم ”ابن الله“ في العديد من أسفار الوحي في الكتاب المقدس سواء في توراةٍ أو إنجيل. أما عن القول بـ ”ابن الإنسان“ فالمسيح نفسه كان يطلق على نفسه هذا التعبير في العديد من المواقف للتأكيد على ناسوته، ناسوتاً فعلياً ليتمكن بناسوته من تتميم عملية الفداء بالموت الفعلي على الصليب لأن اللاهوت لا يموت. وعلِمنا في سياق بحثنا أن الاسمين أو اللقبين: ابن الله وابن الإنسان لازما المسيح وأظهرا جلياً ما نسمّيه بطبيعتي المسيح، أو المسيح ذي الطبيعتين: طبيعة اللاهوت فهو الله الظاهر في الجسد، وطبيعة الناسوت فهو أيضاً إنسان حلَّ فيه كلَّ ملء اللاهوت.

ولا بد من التذكير هنا بأن بنوّة المسيح لله في الكتاب المقدّس هي بنوّة خاصة لا يشابهه بها أحد. فهو الابن الوحيد في حضن الآب، وهو الوحيد الذي انطلق من ذات الله الواحد. وكما يصفه الوحي، فهو بهاء مجد الله وصورة الله غير المنظور. ولذلك نقول إن الابن والآب واحد في الذات الإلهية، فلا تعدّد ولا تكاثر في الله. والمسيح بحضوره بيننا متجسداً قرَّب للبشرية الصورة عن مجد الله، ولطفه، وإحسانه، وحبّه، وطول أناته، ورحمته، مع عظمة قدرته.

هنا أود أن أذكّر من جديد بمشهدٍ أشرنا إليه في حلقة سابقة لم نَفِهِ حقّهُ في التأمل لضيق الوقت، ورد ذكره في سفر دانيال الأصحاح الثالث، حيث نقرأ هناك أن فتيةً ثلاثة مؤمنين عاشوا مسبيّين في زمن نبوخذنصر الملك في أرض الرافدين. فالملك نبوخذنصر صنع تمثالاً عظيماً من ذهب نصبه رجاله في ساحة كبرى في عاصمة ملكه، فاجتمعت جماهير من شعبه في احتفال عظيم جُهّزَ له. ثمّ نادى المنادي قائلاً لهم أنه عندما يسمعون صوت البوق وآلات الطرب، فالأمر الملكيّ يوصي بأن يخرّ ويسجد للتمثال كلّ من وصله الصوت.. ومن لا يخرّ ويسجد يُلقى في أتون نار متّقدة.

هكذا - قارئي العزيز - كان يتصرّف الكثير من الملوك والأباطرة في تلك الأزمنة الغابرة، ولعلّنا لاحظنا بعضاً مثلهم في أزمتنا الحاضرة ممن يحكمون شعوبهم بالحديد والنار، ويحسبون أفراد الأمة عبيداً عند أقدامهم. ومن بين من تواجدوا بين الجموع المحتشدة آنذاك كان هؤلاء الفتيان الثلاثة. وفي لحظةٍ دقّت الموسيقى والطبول، فانحنى وسجد إلى الأرض باتجاه التمثال كلّ من وُجدَ ما عدا هؤلاء الفتيان الثلاثة. وعندما وصل خبرهم للملك دعاهم إليه وسألهم: لماذا لم تسجدوا لتمثال الذهب الذي نصبت؟ فقالوا: يا نبوخذنصر، لا يلزمنا أن نجيبك عن هذا الأمر، هوذا يوجد إلهنا الذي نعبده يستطيع أن ينجينا من أتون النار الذي أعددت وأن ينقذنا من يدك أيها الملك. وإلاّ (أي إن لم يفعل الله ذلك)، فليكن معلوماً لك أننا لا نعبد آلهتك ولا نسجد لتمثال الذهب الذي نصبت! فامتلأ نبوخذنصر غيظاً أمام هذا التحدّي غير المألوف، وأصدر أمراً بأن يحمّى الأتون سبعة أضعاف. ثمّ ربطوا الفتيان، وحضر رجال جبابرة، وحملوهم على الأكتاف موثقين، ورموهم في الأتون، فسقطوا بين ألسنة اللهيب. وبسبب الحرارة العالية قتل سعير النار الرجال الذين حملوا الفتيان للأتون.

هنا انتهت القضية في حسابات الملك. ومرّت دقائق والنار ما زالت ملتهبة فجاءت نظرة من الملك إلى الأتون، فهاله رؤية أربعة رجال محلولين يتمشون وسط اللهيب وما بهم ضرر، فصرخ في رجاله: ”ألم نلقِ ثلاثة رجال موثقين في أتون النار؟“ قالوا: بلى أيها الملك. قال: ”ها أنا أرى أربعة رجال محلولين يتمشون وسط اللهيب ومنظر الرابع شبيه بابن الآلهة!“.

ولي هنا الملاحظات التالية:

أولاً: لاحظنا أن النار كانت محمّاة سبعة أضعاف لإرضاء الملك في غضبه على الفتيان الذين لم يحترموا كلمته، فقتل وهج النار من حملوهم ورموهم في الأتون موثقين.

ثانياً: في تصوّر كلّ من حضر وشاهد الحدث أن الفتيان الثلاثة ابتلعتهم لهب النار فنالوا جزاء موقفهم الرافض لأمر الملك.

ثالثاً: نذكّر هنا أن هؤلاء الشبان كانوا من أبطال الإيمان بالله حتى عندما دعاهم نبوخذنصر لم يضعفوا أو يجاملوا أو يساوموا على مبدأ آمنوا به. والحكم الذي جرى عليهم كان ظالماً. والمجتمع الذي عاشوا في وسطه كان مجتمعاً وثنياً جائراً متعصباً تنقُصُهُ المعرفة بربٍ واحدٍ لا إله سواه.

رابعاً: وعندما ألقى الملك نظرة  باتجاه الأتون للاستمتاع بمنظر اللهيب يحرق عظام المتمرّدين على أحكامه، اعترى الملك حيرة أربكته. فنادى رجاله وتساءل: ألم نلقِ ثلاثة رجال موثقين في الأتون! فمن أين جاء الرابع، ومنظر الرابع منظر مهيب شبيه بابن الآلهة.

خامساً: الملك أمام هذا المشهد كان بكامل وعيه. كيف لا وهو صاحب السلطان في مملكته، والآمر الناهي بين شعبه؟ ولكن ما شاهده بدا مذهلاً ومحيّراً، لا يصدّق! والأمر الذي زاد من حيرته وهو واعٍ لما يراه، أن منظر الرابع بين المتمشّين وسط اللهيب كان مثيراً للدهشة، فقال: ومنظر الرابع شبيه بابن الآلهة!

والسؤال الآن: لماذا استعمل الملك هذا التعبير ”ابن الآلهة“ مع أن الآلهة حسب معتقده كوثني يجب أن تَغْضَب على هؤلاء ولا تقرب منهم؟ من الواضح أن الملك نبوخذنصر رأى في الرفيق الرابع شخصاً تحفّ به هالة من نور علوي لا يمكن أن يكون من طينة البشر. ثمّ هو ليس ملاكاً بأجنحة بل شبه إنسان، إنما عليه من الهيبة والجلال ما يؤكّد أنه ابن آلهة.

سادساً: نذكّر هنا أن الملك المتحدّث كان وثنياً، نشأ وتربّى على مبدأ يفترض أن للكون آلهة متعددة، ولكل إله ميدان ينشط فيه. فتعدّد الآلهة في مفهومه شيء مألوف، إنما أقصى ما استطاع أن يصف به الزائر الرابع بين الفتيان الثلاثة هو أنه بما يحيط به من جلال ومجد لا بدّ أن يكون ابن آلهة. وهذا ما استطاع أن يعبّر به بما استلهمه من قاموس مصطلحاته الوثنية. وفي رأيي، لا يُلام على هذا لأنه إنما عبّر عمّا رآه وأحسَّ به في حدود ما نشأ عليه من معتقدات.

سابعاً: لا بدّ أن ندرك هنا أن شهادة الملك تلك لا ولن تغيّر شيئاً من هوية ذلك الزائر بين الفتيان الثلاثة. فهو  من يسمّيه الكتاب المقدس ”بابن الله“. ويعجبني هنا دقة الكتاب المقدس في نقل ما نطق به نبوخذنصر الوثني كما جاء على لسانه، رغم أن التعبير جاء في قالبٍ وثني يخالف مبدأ الكتاب المقدس.

هذا هو المسيح، مريح التعابى، شافي المرضى، محرّر المأسورين، ومخلّص الخطاة، فهل عرفته؟! تعرّف به واسلم بذلك يأتيك خير.

المجموعة: تشرين الثاني November 2005