نيسان (إبريل) 2006

يذكر لنا الإنجيل المقدس في الأصحاح السابع عن امرأة كانت تعيش مع زوجها وابنها الوحيد في مدينة تُدعى نايين في الشطر الشمالي من فلسطين في زمن المسيح. مرض رجلها ومات، فانحصر عزاؤها في ابنها الوحيد الذي أصبح لها فيه كل شيء، ومرض ابنها أيضاً وهو في عمر الشباب ومات.. وهكذا أصبحت أرملة ثكلى بعد أن فقدت ابنها الوحيد، فحضر أهل مدينتها لتعزيتها ومشاركتها في مصابها، ثم حمل الشبان الفتى الميّت وسارت الجنازة باتجاه المقبرة لدفنه، وسارت الأم خلف النعش تبكي كسيرة القلب.

 

وبينما كان موكب الجنازة متجهاً نحو المقبرة، وعند مفترق من الطرق، إذا بموكب آخر قادم. ويلتقي الموكبان عند نقطةٍ واحدةٍ: هذا موكب الموت والنحيب والدموع والأحزان - يتقدّمه ملاك الموت وقد اقتنص فريسته شاباً غضّاً في ريعان  فتوته، وذاك موكب آخر يرأسه ربُّ الحياة - المسيح - يحيط به تلاميذه وجمع آخر من الأتباع. وما أن التقى الموكبان حتى وقعت أنظار المسيح بين الكتل البشرية على دموع أم باكية تندب وراء نعش ابنها. فتقدّم إليها وكأنه لم يرَ أحداً غيرها وقال لها: "لا تبكي"!

ونتساءل: من يستطيع في موقفٍ كهذا أن يقول لأمٍ فقدت زوجها وابنها الوحيد "لا تبكي"، إلا إذا كان لديه علاج يكسر شوكة الموت ويعيد الحياة لمن فارق الحياة؟ عندها يمكن أن تُمسَح الدموع، ويتوقَّف البكاء، ويعود للقلب عزاؤه.

وما بين مجيء المسيح إلى الأم، وعودته من عندها إلى حاملي النعش، ساد صمت رهيب. وأخذ الناس ينظرون إلى بعضهم البعض باستغراب وكأن شيئاً ما سيحدث. ووصل المسيح إلى حاملي النعش ومدَّ يده ولمس النعش، فوقف الحاملون وأنزلوه إلى الأرض. فقال يسوع للميِّت: أيها الشاب لك أقول قم! فللحال جلس الميت وابتدأ يتكلّم. فأخذه يسوع ودفعه إلى أمّه. وبهذا تَفَسَّر معنى قوله لها: "لا تبكي"! فالذي يعيد الحياة إلى أصحابها يمكنه أن يمسح دموع ذويهم بحقّ.

والآن، من الطبيعي أن يُعاد تنظيم الأوراق من جديد في مسيرة الجنازة! فالأحزان تحوّلت إلى أفراح، والبكاء تحوّل إلى ابتهاج، والنوح تحوّل إلى تسبيح، وحاملو النعش بطلت مهمّتهم، والصندوق بأيديهم أصبح فارغاً لا حاجة إليه، والمسيرة باتجاه المقبرة عادت راجعة إلى بيت الأم، وعبارات التعازي المعتادة في مثل هذه المناسبة تحوّلت إلى أهازيج التهاني.

ونتساءل: من هو هذا الذي يصنع كل هذا العجب؟ ومن هو هذا الذي يملك السلطان على الموت والحياة؟! من هو هذا الذي يخاطب الميّت فيسمعه في الحال ويحيا؟..

هل عرفته يا صديقي؟

وإن عرفته هل فتحت قلبك له؟

وهل قبلته كما هو معترفاً بهويته؟

هذا هو المسيح، شافي المرضى، معزّي الحزانى، محرّر الأسرى، مقيم الموتى، صانع العجائب.

وكما قال يوحنا تلميذ المسيح لزميله بطرس وهما في البحر - عندما ظهر لهم المسيح عن بعد على الشاطئ بعد قيامته من القبر - قال يوحنا في حدّة ملاحظته: هو الربّ! نعم، هو الرب! هو ربّ الحياة، وهو من يعطيها. فإن لم تعرفه يا عزيزي، وإن لم تصل بعد إلى وضوح هويته، نأمل أن تجد في معجزاته ما يضيء الطريق أمامك ويقودك للتعرّف عليه عن قُرب.

وما دمنا نتحدّث عن إقامة الموتى، لما لا نشير إلى مشهد آخر يثير العجب؟! يقول الإنجيل المقدس في مرقس الأصحاح الخامس عن حدث آخر جرى مع المسيح، ويكرّر الإشارة إليه لوقا البشير في الأصحاح الثامن حيث يقول: "ولما رجع يسوع قبله الجمع لأنهم كانوا جميعهم ينتظرونه. وإذا رجل اسمه يايرس قد جاء - وكان رئيس المجمع - فوقع عند قدمي يسوع وطلب إليه أن يدخل بيته. لأنه كان له بنت وحيدة لها نحو اثنتي عشرة سنة، وكانت في حال الموت"... وقبل أن يصل يسوع إلى بيت يايرس، "جاء واحد من دار رئيس المجمع قائلاً له: قد ماتت ابنتك، لا تتعب المعلّم" - بمعنى انتهى الأمر - لا داعي للمحاولة مع المستحيل! تُجَسِّد هذه الكلمات فقدان الأمل والهبوط إلى أبعد درجة في الفشل - ماتت ابنتك لا تُتْعِب المعلّم!

فسمع يسوع وقال على الفور لأبيها: "لا تخف. آمن فقط، فهي تُشفى"! وجاء إلى البيت، دخل إلى حيث كانت الصبية، وأخذ معه أبا الصبية وأمها وثلاثة من تلاميذه. وكان الجميع يبكون ويلطمون. فالفتاة وحيدة أبويها وهي في ريعان العمر. فقال لهم يسوع: لا تبكوا، لم تمت لكنها نائمة - ذلك لأنها في حكم الواقع الإلهي لا بد أن تستفيق بعد قليل... فضحك الجمع بسخرية عارفين أنها ماتت. فأخرج المسيح الجمع خارجاً وأمسك بيدها وناداها قائلاً: يا صبية قومي! فرجعت روحها إليها في الحال وقامت. فأمر أن تعطى لتأكل، فبُهت الجميع مما حدث.

لا بدّ أن يُلاحظ قرّاء الإنجيل والباحثون المطلعون على سيرة حياة المسيح، أنه في كل مرة صنع الرب يسوع فيها معجزة ما، سواء قيامة موتى أو غيرها، كان يقول: كن فكان. ولم يقل مرة: باسم الله قم، أو باسم الله اشفَ! والسر معروف لدينا لا يحتاج إلى البحث! فنحن عرفنا أنه هو الآمر الناهي، لا يعسر عليه أمر، كل شيء مستطاع لديه! نحن عرفناه، وعرفنا هويته ومن يكون هو.

تصوّر صديقي القارئ: لو كنت حاضراً بين الجمع في مثل هذا المشهد! أو تصوّر لو كنت أنت أبا هذه الابنة الغالية في معاناتها ومعاناتك معها، ويأتي المسيح ويمسح دموعك بالطريقة والأسلوب اللذين تعامل بهما مع يايرس، لا شك أن الكلمات تعجز عن وصف مشاعرك.

هذا هو المسيح، مريح التعابى، معزي الحزانى، شافي المرضى، محرّر الأسرى، مقيم الموتى... هو المسيح صانع المعجزات. اسمعه يقول:

"تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيليّ الأحمال وأنا أريحكم".

كما يقول أيضاً:

"هانذا واقف على الباب وأقرع. إن سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخل إليه وأتعشى معه وهو معي"...

ولذلك نردد ما دونه الوحي ونقول لك:

"تعرّف به واسلم بذلك يأتيك خير".

المجموعة: 200604