نيسان (إبريل) 2006

يا لها من أحداث مثيرة لا بل مذهلة، تلك التي حصلت في أورشليم المدينة العظيمة. أثارت استغراب الكثيرين وبمن فيهم نحن الذين كنا مع الأحد عشر تلميذاً. وعلى أثر صلب معلمنا الصالح وقائدنا البار من قِبلِ اليهود، ومن ثم موته ودفنه في القبر، تبخَّرتْ آمالُنا العِظام، وانهارتْ عزائمُنا الكبار. فَرُحنا نتوجَّع ونئنُّ على فقدان رائدنا ابن الإنسان والنبي المقتدر في الأقوال والأفعال. أنَّتْ نفوسُنا على فراقِه، هو الذي رافقنا أياماً وشهوراً وسنينَ عديدة. حتى شعرنا بأنَّ ما من أحدٍ يقدر على تعزيتنا أو يستطيع أن يبعث فينا الأمل من جديد. دبَّ اليأس فينا إذ أضحينا متروكين. فاستغرق الواحد منا في أفكاره السوداوية المظلمة حتى بات يتمنى الموت هو الآخر، علَّهُ يلتحقُ بالسيد المقدام الذي غاب عنه إذ لم يعد له مقامْ.

 

 وبينما نحن على هذه الحال من ثورة الفكر والوجدان على ما حصل لابن الإنسان، إذا بالنسوة يرجعنَ إلينا في صباح الأحد الباكر وهنَّ يقلنَ كلاماً لم نفهمْ كُنهَهُ ولا حتى أدركنا مغزاهْ. قلن إنَّهن وجدن القبر فارغاً وأنَّ الملاك أنَّبهُنَّ على خوفهن إذ قال لهن: لماذا تطلبن الحي بين الأموات؟ ليس هو ههنا لكنه قام.  تراءى كالهذيان كلامُ المريمات. وقلنا في أنفسنا: وهل يُعقل أن يتمَّ هذا، وهل سبق لأحدٍ من الأنبياء أنْ قامَ من الأموات؟ ولكي نتحقَّق من هذا الخبر المثير قام بطرس وركض باتجاه القبر، فوجدهُ بالحق فارغاً ورأى الأكفان موضوعة جانباً. فرجع إلينا مندهشاً ومتعجباً جداً ممَّا رأى.  والآن، نحن نعيش في حيرةٍ من الأمر، هل حقاً قام السيدُ والمعلم وفكَّ نفسه من الأسر؟ اغتمَّت قلوبُنا وبدا الهمُّ على وجوهنا حتى صرتُ أنا كليوباس وصديقي الأمين، نسير عابسَيْنِ في الطريق إلى عمواس، نتباحث في وقعِ الأحداث ونتبادل الآراء عسانا نقطعُ الشكَّ باليقين؟ لكن كيف تُرانا نتأكد؟! فالحدثُ جسيم، ولا يمكن أن ندركَ كنهَهُ العظيم، ونحن لا نملكُ بعدُ الإثباتَ الصحيح أو الدليلَ الصريح.

ولمَّا كنا في أفكارنا هذه منشغلَيْن، وعلى طريق عمواسَ سائرَيْن، إذا بمتغرِّبٍ يرافقُنا ويمشي إلى جانبِنا وينخرِطُ في حديثنا. وما أن رحب به كلانا حتى علَّق على وجوهِنا المتجهِّمة والعابسة مستفسراً عمَّا يزعجُنا ويقلقُنا.

فقلت له: أنا كليوباس، وهل أنت متغرِّبٌ وحدَك في أورشليم ولم تعلم الأمور التي حدثت فيها في هذه الأيام؟ فأكَّد استفساره عنها متسائلاً عن فحواها.

فقلت له أنا وصديقي الحميم: عن الأمور المتعلقة بقائدنا العظيم يسوع الناصري حبيبنا الكريم، الذي كان نبياً مقتدراً بالقول والفعل أمام الله وجميع الشعب. وكيف أسلمه رؤساء الكهنة والحكام لقضاء الموت وصلبوه. وكيف أنَّ أملَنا خاب إذ ظننَّا أنه هو المزمع أن يفدينا من حكم الرومان الجائر ومن الطغيان، ويخلص شعبنا الحائر. وصُدمنا جميعاً إذ ماتَ ودُفن وصار له ثلاثة أيام منذ أن حدث ذلك. ولا يكفي أنَّ رجاءنا قد غاب حين مات، إلا أنَّنا لسنا الآن متأكدين من رواية النسوة التي تركتنا في حيرة من الأمر إذ رجعن من القبر وهن يقلن بأنه حي وهذا بالضبط ما أكده الملاك لهنَّ. ولمَّا أسرع بطرس بدوره إلى القبر وجده فارغاً والأكفانَ موضوعةً جانباً تماماً كما قالت المريمات. لكن، ما من أحدٍ رآه. وما أن انتهيتُ وصديقي من إخبارِ هذا المتغرِّب بهذه الأخبار، حتى التفتَ إلينا واتَّهمنا بالغَباء وعدمِ الولاء لكلام الأنبياء. ودعَم كلامه هذا بالحججِ القاطعة، والأدلَّة الدامغة، بأنه كان ينبغي أنَّ يسوعَ المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده. وراح يفسر لنا ابتداء من موسى وباقي الأنبياء عن الأمور المختصة به في جميع الكتب.

وإذ حسبناه متغرِّباً لا يفقَهُ شيئاً عن الأحداث الحاصلة، إذا به على العكس تماماً، فهو العلاّمةُ العارف، والمشيرُ الحكيم، والمفسِّر القدير. فأحسسنا عندها بصِغَر نفوسنا أمامه،  وبعدم أهليَّتنا في حضرته الكريمة. وعندما أوشكنا على الوصول إلى هدفنا المنشود في قريتنا المتواضعة، فوجئنا به يريد الاستمرار في المسير والشمس قد أشرفت على المغيب. فطلبتُ منه وصديقي أن يميلَ إلينا ويبيتَ عندنا. فدخل ومكث معنا. وبينما نحن نتناول العشاء إذ به يأخذ الخبز في يديه ويباركه ويكسِّره ويناولنا إياه. عقدتِ الدهشةُ ألسنتنا، إذ رأيت أنا كليوباس ما كنتُ أتوق لرؤيته. رأيتُ آثارَ المسامير في يديه المثقوبتين. وللحال سرَتْ في جسدي كله قشعريرة إزاء هذا المشهد المهيب!!

لم أستطعِ الكلام، أمَّا فكري فكان أسرع بكثير من لساني. وقلت في نفسي بفرح ويقين: هذا هو المعلم العظيم ذاته يسوع المسيح.

وفي تلك اللحظة الخاطفة، نظرت إلى صديقي فوجدته هو الآخر ينظر إليّ والكلام عالق على فمه. وصحنا سوية: إنه المسيح، إنه المعلم.  لكنَّه في تلك اللحظة اختفى عنا وعدنا اثنين بدلَ الثلاثة.

أجل، إنه المسيح الذي بِتْنا نتحدث عنه طوال الطريق، قد كان يلازمُنا ويحدثنا ويعاتبنا ويبيِّن لنا بالحجة والبرهان قيامة ابن الإنسان. الآن فهمنا لماذا كانت قلوبُنا ملتهبةً فينا طيلةَ الطريق وهو يكلمنا ويفسر لنا ما جاء في الكتب والأنبياء. لكنَّنا لم نعرفه حتى رأينا ثقوب المسامير في يديه. حينذاك شعرنا وكأن الغشاء قد أزيح عن أعيننا فأبصرنا للحال وعرفناه. عندها لم نعد نستطيع لا أنا ولا صديقي البقاء في عمواس بعد أن التهب الإحساس وانفتحت الحواس وقفَلْنَا راجعَين من حيث أتينا تحت جنح الظلام ووجدنا التلاميذ مجتمعين هم والذين معهم وكانوا يقولون: حقاً إن الرب قام وقد ظهر لسمعان. فأكدنا لهم أنه فعلاً قام وتكلم إلينا وتحدَّث معنا على مسار ستينَ غَلوة بينما كنا متجهين من أورشليم إلى عمواس. وفسَّر لنا الكتب والأنبياء، ثم فتح عيوننا عند كسر الخبز، فعرفناه وأدركنا أنه هو بالفعل، وأنه حي.

صديقي القارئ، أنا كليوباس كنت مع الأحد عشر وآخرين من التابعين للسيد العظيم. دُوِّنَتْ قصتي على لسان لوقا الطبيب وبوحي من الروح القدس عساها تكون درساً قيِّماً لكل باحث وقارئ لبيب. وطوبى لكَ أنت الذي لم ترَ ما رأيتُ أنا ولم تسمع ما سمعتُ أنا، لكنَّك عن طريق الثقة بكلمته الحية آمنتَ وصدَّقتَ. أليس هذا بالضبط ما قاله يسوع المسيح المقام لتوما المشكك؟ "طوبى للذين آمنوا ولم يروا." أما إذا لم تتأكد بعد وتريد براهين ملموسة وحججاً مدروسة، فاطلب أن يفتح الله عينيك كما فتح عينيَّ أنا ورفيقي، وأن ينيرَ بنفسه بصيرتك، فيلتهبَ قلبك بحضوره، ويمتلئ بهيبته وجلاله وقوته ونصرته. وعندها تختبر نصرة القيامة في حياتك وكذلك فرح القيامة المجيدة. حقاً، لقد التهبَ الإحساس وانفتحتِ الحواسُ على دربِ عمواس.

كليوباس من  قرية عمواس

المجموعة: 200604