كانون الأول (ديسمبر) 2006

من مدلولات الأسماء أخذت تلك القرية الصغيرة مقامها "بيت لحم" ميخا 2:5. ذلك الاسم النبوي الذي يعني بالعبرانية: "بيت الخبز" حيث صارت بيتاً لخبز الحياة، وبمذودها الحقير مهداً لمن ترنمت بمولده ملائكة الله، وتهللت السماء مضيئة بنور عجيب! وقد ظهر في الأفق نجم غريب يقود الزائرين من مكان بعيد، فلما وصل المجوس إلى أورشليم اختفى ذلك النجم فترة لأن تلك المدينة كانت فيها كلمة الله التي هي نور للمهتدين. فاضطر المجوس لأن يسألوا أورشليم هذا السؤال: أين هو المولود ملك اليهود".

 

لقد سُمّي هؤلاء بالمجوس نسبة لوظيفتهم ونعلم أنهم جاءوا من المشرق. وفي سفر إشعياء 6:60 نجد هذه النبوة: "تغطّيك كثرة الجمال، بكران مديان وعيفة كلها تأتي من شبا. تحمل ذهباً ولباناً، وتبشر بتسابيح الرب". وقد تمت هذه النبوة جزئياً بمجيء المجوس، ونعتقد أنها في مراحل إتمامها الأخيرة تشير إلى مجيء قبائل الشرق العربية وغيرها إلى الرب يسوع في مجيئه الثاني العظيم الذي ينتظره العالم أجمع.

نحن نعلم من كلمة الله ومن التاريخ أيضاً أن "شبا أو سبأ" هي إحدى قبائل العرب الكبيرة المنحدرة من سام ومن إبراهيم وكانت تسكن المنطقة المسماة باسمها وهي اليمن مع قسم من الحجاز. وكذلك "مديان وعيفة"، فهما من نسل إبراهيم أيضاً من زوجته الأخيرة قطورة وكانوا يسكنون مع إخوتهم السبئيين. وقد هاجر بعض هؤلاء إلى الحبشة فسمّوا كوشيين. ويقول المفسرون: إن المجوس كانوا من سبأ والحبشة وبلاد فارس حيث أن كلمة "مجوس" تعني كاهن بلغة الفرس وكان هؤلاء ذوي علم وثقافة عاليين ومراكز سامية تأتي بعد الملك مباشرة. وإذ كان السبئيون حراس الصحراء وتجارها الذين يعرفون مداخلها ومخارجها، فالأرجح أنهم كانوا قادة القافلة التي أقلت هؤلاء المجوس الذين استأجروهم لهذا الغرض.

لكن تأملنا بنعمة الرب يدور حول سؤال هؤلاء المجوس في أورشليم: "أين هو المولود ملك اليهود؟ فإننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له" (متى 2:2). لقد سأل هؤلاء عن يسوع الطفل من حيث المكان، أما نحن اليوم فيجدر بنا أن نسأل عن يسوع الرب والمخلص من حيث المقام.

أولاً: أين هو يسوع في اعتباراتنا ومعتقداتنا؟

لقد قال المجوس: "أتينا لنسجد له"، والسجود يحق لله فقط، أما نحن فما هو موقع المسيح بالنسبة إلينا؟

لقد صنّف البعض عظماء هذا العالم ووضعوا يسوع رب المجد في مرتبة متأخرة عن بوذا وغيره لأنهم يرفضون التعبّد له كونه جاء وديعاً لطيفاً صافحاً عن الذنب. فلو جاء جباراً عاتياً لتبعه وتعبّد له الكثيرون ومنهم أولئك الذين رفضوه وصلبوه. وآخرون قالوا إنه من العظماء. وغيرهم لم يفرّق بينه وبين الأنبياء الآخرين. وقليلون هم الذين عرفوا حقيقة المسيح من هو، وما هو مقامه السامي كالابن الإلهي والرب المتجسد؛ والبعض أيضاً سيعرفون عند مجيئه الثاني الظافر ولكن بعد أن تكون الفرصة قد فاتتهم إلى غير رجعة.

لقد عرف المجوس أنه ملك فريد مكرم من الله لذلك قدموا له السجود. أما كلمة الله فتعلن لنا بكل قوة من خلال النبوات التي قيلت عنه وتمت فيه أنه:

الأزلي: "الرب قناني أول طريقه، من قَبْلِ أعماله، منذ القدم" (أمثال 22:8).

الأبدي: "إلى دهر الدهور سنوك. من قِدَمٍ أسست الأرض والسماوات هي عمل يديك. هي تبيد وأنت تبقى، وكلها كثوب تبلى، كرداء تغيِّرهنّ فتتغيّر. وأنت هو وسنوك لن تنتهي" (مزمور 24:102-27).

الإله المتجسد: "لأنه يولد لنا ولد ونُعطى ابناً، ويُدعى اسمه عجيباً، مشيراً، إلهاً قديراً، أباً أبدياً، رئيس السلام"
(إشعياء 6:9). وكذلك "ولكن يعطيكم السيد نفسه آية: ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل" (إشعياء 14:7). ومعنى عمانوئيل "الله معنا".

البار القدوس: وجُعل مع الأشرار قبره، ومع غني عند موته. على أنه لم يعمل ظلماً، ولم يكن في فمه غش"
(إشعياء 9:53).

المخلص: "لذلك أَقْسِم له بين الأعزاء ومع العظماء يَقْسِم غنيمة، من أجل أنه سكب للموت نفسه وأُحصي مع أثمة، وهو حمل خطية كثيرين وشفع في المذنبين" (إشعياء 12:53).

ناهيك عن إعلانات الروح القدس على أفواه التلاميذ في العهد الجديد التي لا يطالها لبس ولا غموض عن شخصية المسيح:

"عظيم هو سر التقوى. الله ظهر في الجسد..." (1تيموثاوس 16:3).

"وليس بأحد غيره الخلاص، لأن ليس اسم آخر تحت السماء، قد أُعطي بين الناس، به ينبغي أن نخلص"
(أعمال 12:4).

"وأوصانا أن نكرز للشعب، ونشهد بأن هذا هو المعيّن من الله دياناً للأحياء والأموات" (أعمال 42:10). وغيرها كثير.

فهل بعد هذا يوجد من يستحق السجود والعبادة غيره؟

ثانياً: أين هو في اشتياقات قلوبنا؟

توجد في قلوب الناس أشواق كثيرة لأمور متعددة، فالبعض يشتاق لأحبائه وأقربائه، وآخر لبلاده، وغيرهم لأملاكه ومقتنياته، والبعض لتسلياته، ولكن هؤلاء المجوس تركوا بلادهم وأهلهم ومراكزهم الكهنوتية وممتلكاتهم في رحلة شاقة خطرة يتشوّقون لرؤية طفل سمعوا عنه ولم يعرفوه. والشوق في القلب يسهّل الطرق ويقرّب المسافات. ونحن أحياناً نعتبر أنفسنا مقدّمين تضحية كبيرة في حضورنا اجتماع الكنيسة لاستماع كلمة الرب والتقابل مع شخصه بالإيمان!

ثالثاً: أين هو في أفراحنا ومسراتنا؟

 مكتوب عن المجوس: "ولما رأوا النجم فرحوا فرحاً عظيماً جداً وأتوا إلى البيت ورأوا الطفل مع مريم أمه". قد يفرح الكثيرون في أيامنا هذه ويبتهجون باحتفالاتهم، وزيناتهم، وزياراتهم، وموائدهم، وربما سكرهم أيضاً بمناسبة العيد، وينسون صاحب العيد. ونحن نرى الألوف المؤلّفة من زينات الميلاد حولنا في كل مكان من أشكال أخّاذة وزينات برّاقة. ولكن أين هو موقع يسوع بين هذه كلها؟

لقد أصبحت أفراح الميلاد شيئاً من التقليد الجاف بالنسبة لكثيرين. أما الذين يحبون الرب حقاً فيفرحون باللقاء مع شخصه الكريم. "فرحاً أفرح بالرب. تبتهج نفسي بإلهي، لأنه قد ألبسني ثياب الخلاص. كساني رداء البر، مثل عريس يتزيّن بعمامة، ومثل عروس تتزيّن بحليّها" (إشعياء 10:61).

رابعاً: أين هو في تقدماتنا؟

تقول الكلمة الإلهية: "ثم فتحوا كنوزهم وقدموا له هدايا: ذهباً ولباناً ومراً" (متى 11:2).

الذهب: إشارة لملكه الذي ليس له نهاية. فكما أن الذهب لا يصدأ ولا يتغيّر ولا يفنى كذلك هو ملكوت ابن الله. قالت عنه النبوة: "لنموّ رياسته، وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته، ليثبّتها ويعضدها بالحق والبر، من الآن إلى الأبد. غيرة رب الجنود تصنع هذا" (إشعياء 7:9).

اللبان: رمز لكهنوته العظيم حيث كان يُصنع منه البخور العطر الذي يدخل به رئيس الكهنة إلى قدس الأقداس.

المر: رمز لحياته الطاهرة وآلامه القدسية التي احتملها على الصليب لإتمام عمل الفداء العظيم. فقد ذاق مرارة الموت حباً بنا لخلاصنا وفداء نفوسنا.

قارئيّ الأكارم،

في ذكرى الميلاد المجيد تتجلى فرصة أخرى لكل واحد كي يبحث ويسأل عن مقام المسيح في حياته، وهو يستحق منا أن نحتفل ونفرح بشخصه الفريد. فهو وحده الذي كان محور بحث هؤلاء المجوس، وكان بمفرده مستحقاً للسجود حيث يقول الكتاب: "وأتوا إلى البيت، ورأوا الصبي مع مريم أمه، فخروا وسجدوا له، ثم فتحوا كنوزهم وقدّموا له هدايا" (متى 11:2).

لقد كانت القديسة المباركة مريم هناك وكان بالضرورة القديس يوسف وآخرون، ولكن السجود والعبادة والهدايا النبويّة قد قُدّمت فقط ليسوع. فأين هو المسيح في اعتبارات تعبّدنا؟ وفي طوايا أشواقنا ومباهج أفراحنا؟ وأين هو في تقدماتنا؟ إنه يرغب أن تكون له المكانة الفريدة في كل هذه كالأقنوم الثاني في اللاهوت، وهو بالمقابل سيمنحنا المكانة السامية في ملكوته الآتي والفرح المجيد العجيب في ظهور مجيئه القريب.

المجموعة: كانون الأول December 2006