شباط (فبراير) 2006

تكلمنا في المرات الماضية عن عالم ما قبل الطوفان، العالم الذي "فاض عليه الماء فهلك". وتكلمنا عن العالم الحاضر الشرير الذي سينتهي بضيقة عظيمة لم يكن مثلها ولن يكون. والآن سنتكلم عن العالم الآتي، أي "الدهر الآتي" (عبرانيين 5:6) ويُسمّى أيضاً "العالم العتيد [أي المستقبل]" (عبرانيين 5:2). يبدأ العالم الآتي بمجيء المسيح إلى هذه الأرض كملك الملوك ورب الأرباب طبقاً للوعد الإلهي "اسألني فأعطيك الأمم ميراثاً وأقاصي الأرض ملكاً لك" (مزمور 8:2).

 

أول من تنبّأ عن ذلك هو يعقوب أبو الأسباط قبل موته مباشرة، إذ قال: "حتى يأتي شيلون ويكون له خضوع شعوب" (تكوين 10:49). وتكاثرت النبوءات بعد ذلك، فقال إشعياء: "هوذا بالعدل يملك ملك، ورؤساء بالحق يترأّسون" (إشعياء 1:32). كما رنّم الأتقياء عن ذلك في المزامير: "الرب قد ملك فلتبتهج الأرض، ولتفرح الجزائر الكثيرة" (مزمور 1:97). "الرب قد ملك. ترتعد الشعوب" (مزمور 1:99). ورآه يوحنا في الرؤيا "ثم رأيت السماء مفتوحة، وإذا فرس أبيض والجالس عليه يُدعى أميناً وصادقاً، وبالعدل يحكم ويحارب... ويُدعى اسمه كلمة الله... وله على ثوبه وعلى فخذه اسم مكتوب ملك الملوك ورب الأرباب" (رؤيا 11:19-16).

بداءة العالم الآتي

يخبرنا الكتاب المقدس عن الحوادث التي تصحب مجيء المسيح ليملك. قبل أن يثبِّت المسيح ملكه فينشر البر والسلام، لا بدّ أن يهلك الأعداء. إذ يُقبض على الوحش والنبي الكذاب، ويطرح الاثنان حيّين في بحيرة النار المتقدة بالكبريت (رؤيا 20:19)، ويحاكم الرب الشعوب ويُقتل الأعداء، فلا يبقى على هذه الأرض إلا الذين يخضعون لملك الملوك ورب الأرباب، ويُقبض على الشيطان ويقيّد ألف سنة ويُطرح في الهاوية ويُغلق عليه لكي لا يضلّ الأمم (رؤيا 1:20-3).

وليس هدفي هنا أن أدخل في مناقشة عما هو رمزي وما هو حرفي. أما أن المسيح سيملك على هذه الأرض فهو حقيقة واقعية أكيدة مبنية على وعد الله الصادق لابنه الذي أخلى نفسه آخذاً صورة عبد، وأطاع حتى الموت موت الصليب. ولكن الله رفّعه وقال له: "اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك" (مزمور 1:110). يسوع المسيح هو الحجر الذي حطّم "التمثال العظيم البهي" الذي رآه نبوخذنصر والذي يمثل حكومات هذا العالم الحاضر الشرير. ورآه دانيال مثل ابن إنسان أُعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبّد له كل الشعوب والأمم والألسنة، سلطانه سلطان أبدي (دانيال 45:2 و13:7-14).

وستـراه الأرض فـي كرسيه الرفيع

إذ يأخذ الملك الذي له على الجميع

لنرفع رؤوسنا إذاً، لأن مجيئه قد اقترب.

فالليـل كــاد ينتهي والكوكب المنيـر لاح

والملك سوف يبتدي وتشرق شمس الصباح

بعض صفات العالم الآتي

سيختلف العالم الآتي، تحت حكم المسيح، عن عالمنا الحاضر الشرير من نواح كثيرة:

السلام

سيكون ملكه ملك السلام، فلن تكون هناك حروب، إذ تكون كل ممالك الأرض تحت سلطة المسيح "فيقضي بين الأمم وينصف لشعوب كثيرين، فيطبعون سيوفهم سككاً (آلات زراعية) ورماحهم مناجل. لا ترفع أمة على أمة سيفاً ولا يتعلّمون الحرب في ما بعد" (إشعياء 4:2).

الفرح الحقيقي

الناس الآن يفرحون بأشياء تافهة وأحياناً بأشياء مضرة، ولكن حين يملك المسيح سيكون هو مصدر الفرح، كما قال إشعياء: "فرحاً أفرح بالرب. تبتهج نفسي بإلهي" (إشعياء 10:61)، بل كل الخليقة ستفرح لأن "الرب قد ملك" (مزمور 1:97).

القداسة

كذلك يتصف الدهر الآتي بالقداسة لأن ملكوت الله "هو بر وسلام وفرح في الروح القدس" (رومية 17:14). فلن تكون هناك أماكن للهو والخلاعة.

العدالة

المسيح هو الملك الذي "بالعدل يملك" والذي قال عنه إرميا أنه يملك "وينجح، ويجري حقاً وعدلاً في الأرض" (إرميا 5:23). وقال إشعياء أنه "يقضي بالعدل للمساكين، ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض" (إشعياء 4:11). ما أعظم الفرق بين هذا وبين ما قاله سليمان عن العالم الحاضر الشرير: "وأيضاً رأيت تحت الشمس: موضع الحق هناك الظلم، وموضع العدل هناك الجور" (جامعة 16:3).

معرفة الرب

في العالم الحاضر انتشرت الهرطقات والتعاليم الفاسدة، ولكن في الدهر الآتي سوف تمتلئ الأرض من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر (حبقوق 14:2).

الصحة والرفاهية والعمر الطويل

في هذا العالم الحاضر توصف حياة الإنسان بأنها "بخار، يظهر قليلاً ثم يضمحلّ" (يعقوب 14:4). وقال أيوب: "الإنسان مولود المرأة قليل الأيام وشبعان تعباً" (أيوب 1:14). وهذا كله من نتائج الخطية. ولكن في الدهر الآتي ستُرفع اللعنة وتحل البركة.

تغييرات في الطبيعة

تغييرات في الأرض، والنباتات، والحيوانات، والخليقة عموماً. "لأن الخليقة نفسها أيضاً ستُعتق من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله. فإننا نعلم أن كل الخليقة تئن وتتمخّض معاً إلى الآن" (رومية 21:8-22). "لأن انتظار الخليقة يتوقّع استعلان أبناء الله" (عدد 19). هذه بعض صفات الدهر الآتي ولا يسع المجال أن نتكلم عنها بالتفصيل.

نهاية العالم الآتي

كما انتهى العالم الماضي بالطوفان، وكما سينتهي العالم الحاضر بالضيقة العظيمة ومجيء المسيح، سينتهي الدهر الآتي أيضاً حين يُحلّ الشيطان من سجنه ويُخرج ليضلّ الأمم الذين في أربع زوايا الأرض (رؤيا 8:20). فبالرغم من كل البركات التي يتّصف بها ملك المسيح في العالم العتيد إلا أنه هناك حقيقة أكيدة: "ينبغي أن تولدوا من فوق" (يوحنا 7:3). ففي أثناء ملك المسيح سيولد كثيرون، وبعضهم لن يولدوا من فوق. هؤلاء سيضللهم إبليس ويجمعهم للحرب، "الذين عددهم مثل رمل البحر. فتنزل نار من السماء من عند الله وتأكلهم. وإبليس الذي كان يضللهم يُطرح في بحيرة النار والكبريت، حيث الوحش والنبي الكذاب، وسيعذّبون نهاراً وليلاً إلى أبد الآبدين (انظر رؤيا 7:20-10). وبعد ذلك تأتي دينونة العرش العظيم الأبيض، وينتهي دور هذه الأرض وتكون هناك سماء جديدة وأرض جديدة (رؤيا 1:21). وهكذا تبدأ الأبدية السعيدة التي فيها "لا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع في ما بعد، لأن الأمور الأولى قد مضت" (رؤيا 4:21). "وقال الجالس على العرش ها أنا أصنع كل شيء جديداً" (عدد 5).

فبما أن هذه كلها (أي الأرض وما عليها) تنحلّ، أيَّ أناس يجب أن تكونوا أنتم في سيرة مقدسة وتقوى؟ منتظرين وطالبين سرعة مجيء يوم الرب، الذي به تنحلّ السماوات ملتهبة، والعناصر محترقةً تذوب. ولكننا بحسب وعده ننتظر سماوات جديدة وأرضاً جديدة يسكن فيها البر" (2بطرس 11:3-13).

ونحن إذ ألقينا نظرة على العالم في مراحله الثلاث، نقول مع الرسول بولس: "يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه! ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء! لأن من عرف فكر الرب أو من صار له مشيراً؟ أو من سبق فأعطاه فيكافأ؟ لأن منه وبه وله كل الأشياء له المجد إلى أبد الآبدين. آمين" (رومية 33:11-36).

المجموعة: 200602