شباط (فبراير) 2006

مالت الشمس إلى الغروب في منتصف نيسان.

فخلعت الطبيعة على وجه أورشليم نقاباً رمادياً قاتماً أخفى جمالها الغادر عن أعين الزائرين الذين قصدوها؛ ليقتلوا محاسن عيد الفصح.

 

وبعد قليل، أشارت الشمس إشارة خفيفة إلى القمر، لينتزع رداء الظلام وينشر بدلاً منه رداءه الفضي الجميل.

ولما خلت شوارع أورشليم الضيقة من أرجل الغادين والرائحين، همّ رجل شيخ بالخروج من منزله، واتخذ لنفسه طريقاً في ظلال أشجار الزيتون حيناً، وفي ظلال جدران المنازل أخرى. ولما اطمأن ذلك الشيخ الوقور إلى عدم وجود أعين تراه، قرع باب عليّة ودخل على الرحب حيث استقبله معلم الأجيال والدهور ومخلص جميع البشر.

جلس نيقوديموس، وهنا التقى قلب الليل بصدر النهار واجتمعت خلاصة العهد القديم بجوهرة العهد الجديد.

ولما استقرّ الشيخ الوقور بدأ حديثه بتحية: "نعلم أنك أتيت من الله معلماً؛ لأن لا أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات، إن لم يكن الله معه" (يوحنا 2:3).

كنا نتوقّع أن يرد المسيح التحية بأفضل منها، لكن المسيح واجه ضيفه بإعلان الحاجة القصوى له ولكل شخص: "الحق الحق أقول لك: إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله".

سمع نيقوديموس هذه الكلمات وجلس مبهوتاً؛ لأنه لم يسمع مثلها من قبل.

وهنا خفض جناح كبريائه حين قال: "نعلم"، وأدرك أنه لا يدري شيئاً... ثم حاول أن يجد لنفسه مخرجاً من هذا المأزق، فهو شيخ وقور معلم في إسرائيل... فكيف يولد ثانية؟ لعلّ هذا الكلام يناسب الشباب.

وهنا أجابه المسيح بالحق: "الحق الحق أقول لك: إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله. المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح. لا تتعجّب" (يوحنا 5:3-7).

هذه هي حاجتنا القصوى: الميلاد من فوق، إذا أردنا أن ندخل ملكوت السموات. لأن السماء مكان مهيّأ لأناس مهيّئين. فكما أن الطير لا يقوى على الحياة في الماء، ولا السمك في الهواء، لن يدخل أحد السماء ما لم يكن مولوداً من الروح القدس... أي مولوداً من فوق.

وكما يتذوّق الموسيقى ذو الأذن الموسيقية المرهفة، ويميّز جمال صورة من صور الفن الرائع من له ذوق فنيّ، ولن يقوى إنسان على استيعاب قطعة شعرية، إلا إذا وُهب موهبة شاعرية في نفسه تميِّز جمال الشعر.

لقد شاء الله بحكمته أن يرتب الكائنات على درجات، وأحاط كل مملكة منها بحدود لا تتخطاها.

في الدرك الأسفل وُضعت مملكة الجماد، وفوقها مملكة النبات، ثم مملكة الحيوان ومن فوقها مملكة الإنسان. وفوق الجميع مملكة الروح.

فالمعادن توجد في مملكة الجماد. والوردة في مملكة النبات لأنها نبتت فيها. والحمل في مملكة الحيوان لأنه وُلد فيها. والإنسان في المملكة الإنسانية التي وُلد فيها.

وهكذا لا يمكن للإنسان أن يدخل مملكة الروح إلا إذا وُلد من الروح.

وقد نتساءل: كيف يمكن للإنسان أن يولد من الروح؟

هذا سؤال لا يقوى إنسان على إجابته... لأن لغة الروح في معجمها لا تعرف الكم والكيف.

لكننا نستطيع أن نقرر أن الميلاد الثاني يحدث في خطوتين: الأولى هي الموت، والثانية هي الحياة. فلا حياة جديدة إلا بعد موت الحياة العتيقة الأولى.

قد يستطيع النبات أن يدخل مملكة الحيوان إذا أكله الحيوان فمات أولاً ثم صار جزءاً غير منفصل منه.

كذلك لا يمكن الإنسان أن يرقى إلى مملكة الروح، إلا إذا مات أولاً عن الجسد واللذات والذات، ودخله روح جديد من شخص المسيح، ووُلد المسيح فيه، ووُلد هو في المسيح.

إن الغالبية العظمى من البشر لا تريد أن تخلع رداء الحياة العتيقة، ولكن لا يوجد طريق آخر للدخول في مملكة الروح والتمتّع بالطبيعة الإلهية إلا من خلال الولادة الروحية بالرب يسوع المسيح.. وهذا هو صميم رسالة الكنيسة إلى البشر.

المجموعة: 200602