تموز (يوليو) 2006

فازت بين شلَّةٍ من المتسابقين من الجنسين في سؤال السرعة وأعطتِ الجواب الصحيح، وجاءت لتتربَّع على كرسي المشتركين من الفائزين في البرنامج التلفزيوني الشهير "من سيربح المليون" الذي يشاهده الملايين من العرب حول العالم بسبب الفضائيات. وفوجئتُ أنا المشاهدة بشبحٍ أسود يصعد  المنصَّة ويُلقي التحية على مدير البرنامج جورج قرداحي ومن ثمَّ يتسلَّق الكرسي العالي ويجلس. نعم إنَّها سيدة قد خفَتْ كلَّ معالم شخصيتها وراء ستارٍ أسود من فوق إلى أسفل. وقد غطى الحجابُ الوجه كلَّه ولم يتبيَّن أمامي سوى ثقبين تظهرُ من ورائهما عينانِ سوداوانِ تلمعان في الضوء الساطع. وعلى مشهدٍ من المتسابقين والجمهور المشجع وأمام عدسات الكاميرا والمصورين، وأمام ملايين المشاهدين للرائي، طَلعتْ علينا هذه المرأةُ من وراء الحجاب والعباءة تتكلَّم وتجيب، ترى وتسمع كلَّ شيء أمَّا نحن فلا نرى شيئاً.

 

وقلت في نفسي إذا لم تكن تريدُ الظهورَ أمام الناس فلماذا اختارتْ بالذات وسيلة الإعلام المرئية وليس المسموعة؟ وتساءلت أيضاً: ترى كيف سمحتْ لنفسها برؤية الجميع، رجالاً ونساءً، من الجمهور والمتسابقين،  بينما منعتْنا نحن من حقِّ رؤيةِ شكلِها وحقيقة شخصيتها التي حجبتها عن الأنظار؟؟ وبقينا في جهلٍ مطبقٍ عن معالم شخصية المتسابقة هذه، وكذا ظلَّ مدير البرنامج الذي كان يوجه إليها سؤالاً بعدَ الآخر. أما كان من الأفضل لهذه المرأة المحجوبة عن مجتمع الإنسان، أن تختار وسيلةَ إعلام أخرى محجوبةً هي أيضاً مثلَها عن الأنظار؟

لم يحصل هذا أمام الرائي فحسب لكنْ وجهاً إلى وجه أيضاً إذ أخبرتني صديقتي ذات يوم بأنَّها احتاجت في إحدى المرات لكي يعاينها أحد الأطباء وكان نصيبُها إحدى الطبيبات المناوبات في المستشفى. ولمَّا دخلت عليها الطبيبة لكي تكشف عليها، عرتها المفاجأة لأنها لم تقدر أن ترى منها شيئا إذ كانت تضع على وجهها الخِمارَ الأسود والعباءة تغطي جسدها من أعلى إلى أسفل. عندها اعترضت صديقتي ومنعتْها من الكشف عنها على الرغم من وجعها وألمها. ولمَّا استغربَتْ هذه الطبيبة قالت لها صديقتي: كيف تسمحين لنفسك بأن تكشفي عن جسدي كلَّه وأنتِ لا تسمحين لي حتى برؤية وجهِك؟! وما أدراني إنْ كنتِ رجلاً متخفِّياً، أم أنَّكِ حقا امرأة كما تدَّعين؟ نعم، وأكرر أنا القول: وما أدرانا يا قرَّائي مَنِ المتخفِّي حقا وراء هذا الستار؟

في هذا الصدد تكلَّمت الباحثةُ الأكاديمية والكاتبة اليمنية إلهام مانع وأستاذة العلوم السياسية في جامعة زوريخ السويسرية للعربية نيت قائلةً: إنَّها تفرِّقُ دائماً بين الإيمان بالله والروحانية المرتبطة بالدين وأمرٍ آخر هو الشكليات التي صارت الأساس لكل شيء. وتساءلت عن العلاقة أصلاً بين "قطعة قماش" والإيمان بالخالق الذي منح الإنسان العقل ليفكر ويعبِّر عن رأيه. كما أوضحت هذه الكاتبة اليمنية قائلة: المرأة ليست عورة وإنما إنسانة قادرة على التصرف بصورة لصيقة بالفضيلة و”قطعة القماش" لا تحدِّد من أنا بل السلوك هو الذي يحدد. وآن الأوان أن نبحثَ في عالمنا العربي عن الحل وهو العقل الهبة من الله.  وأضافت: إن قولنا أن خلع الحجاب يولّد الإثارة الجنسية عند الرجل يفترض أنَّ الرجل مسيَّرٌ بغرائزه وميوله. لكن الرجل ليس هكذا لأنه إنسان عقلاني وقادر على التعامل مع المرأة ككيانٍ له عقل. وتتابع الدكتورة إلهام لتقول: "وإنَّ الدعوة لخلع الحجاب لا أعني بها أن تمشي المرأة عارية بل يجب أن تكون محتشمة وتبتعد عن الأشكال الفاضحة. إننَّي أحترم قرار النساء واختيارهن ولكن حان الوقت أن يأتي من يقول إن هذا ليس جزءاً من الدين. فهذه مظاهر اجتماعية تدعو إلى أخذ القشور وترك الجوهر. فما هو الأهم أن أغطي شعري أم أن أدرس وأعمل؟ وما هو الأفضل الحديث عن كيف نأكل أو نتحدث عن الفساد ونجدُّ في إيجاد حلٍّ له؟ فالواحد منا يتحدث عن الدين والأخلاق ثم يعتدي على جيرانه بالأقوال والأفعال غير اللائقة".

بيت من الشعر يخطر على بالي في هذا المنحى من الكلام يقول فيه الشاعر واصفاً امرأةً محجوبة عن النظر لكنَّها كانت بمثابة فخٍّ للإغراء في الفكر والخيال لناسكٍ متعبِّد:

قلْ للمليحةِ بالخمارِ الأسودِ              ماذا فعلتِ بناسكٍ متعبِّد...

أجل، إنَّ مصدرَ الشر هو الداخل وليس الخارج، هو الباطن المستتر وليس الظاهر. قال الرب يسوع المسيح مرة: ما يخرج من الفم فمن القلب يصدر. وذاك ينجس الإنسان. لأن من القلب تخرج أفكار شريرة قتل زنى فسق شهادة زور تجديف. هذه هي التي تنجس الإنسان“
(متى 18:15-19).

فإلامَ نتخفّى وراءَ اللباس، وحتى متى نتغنَّى بالحشمة الظاهرية؟ بينما العقلُ والقلب هما في وادٍ آخر؟ نعم حتى متى سنبقى متِّزرين بأوراق التين لتغطيةِ عريِنا تماماً كما فعل منذ فجر التاريخ أبوانا الأولان آدم وحواء؟ إنَّ صوتَ الله لا يزال ينادي حتى الآن قائلاً:  آدم آدم أين أنت؟

ولو استطاع آدم أن يصل إلى سَترِ عريِه لما جاءه الله بأقمصةٍ من جلد ليُلبسَه وزوجتَه. وما تاريخ علاقة الله مع الإنسان التي دُوِّنت بالروح القدس في أسفار التوراة وكتب العهد القديم إلا دليلٌ قاطع على فشل الإنسان وعجزِه في تطبيق الناموس والثبات في وصايا الله وشرائعه. كما يقول الروح القدس على لسان النبي داود: ”الكل قد زاغوا معا فسدوا ليس من يعمل صلاحا ليس ولا واحد“ (مزمور 14:13). فكيف إذن نتطهَّرُ من عيوبنا الكامنة في قلوبنا؟ هذه "المستنقعات الآسنة" بحسب وصف ميخائيل نعيمة هي التي تحتاج إلى التغيير. لذلك يقول الروح القدس على لسان النبي والملك سليمان: يا ابني أعطني قلبك، ولتلاحظ عيناك طرقي. (أمثال 23: 26)

لقد أجاب عن هذا السؤال بولس أحد رسل المسيحية الأوائل بالروح القدس فقال: "إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل قد صار جديداً" (2كورنثوس 17:5). أي عندما نؤمن بالرب يسوع المسيح المخلص يتغيَّر القلب ويتجدَّد الداخل، لأن الله يغيِّرنا ويمنحنا قوة جديدة لكي نتغلَّب على الخطية. وهكذا تعود علاقتنا حميمةً بيننا وبين الله الآب. وعندها فقط تنضَحُ إلى الخارج ثمار الروح القدس التي هي محبة، فرح، سلام، طول أناة، لطف، صلاح، إيمان، وداعة، وتعفف.

إذن مهما تحشَّم البشر أو تغطَّوا، أو صاموا وصلوا وقدموا صدقات وعملوا الصالحات، فستبقى هذه كلها قشوراً لا تمتُّ إلى العمق بصلة، وخِرَقاً بالية لا قيمة لها أمام الله. أَمَا وقد عرفنا الآن أن الدين أو التدين لا ينفعانِ بل تغيير القلب من الداخل بواسطة روح الله القدوس، والعودة إلى الشركة الحية مع الله، والعلاقة المتينة، فهل نتوقُ لكي نأتي بالإيمان إلى الله بواسطة يسوع المسيح المخلص؟ فنستعيد شركتنا المقطوعة ونتمتع بعلاقة وطيدة معه تعالى؟ هذا هو يا قارئيَّ التحدي الأكبر.

المجموعة: 200607