تموز (يوليو) 2006

أعلنت ساعة الردهة الكبيرة السابعة مساء، فرفعت رأسي المنهوك عن الأوراق المتناثرة فوق مكتبي، ثم نهضت عن مقعدي وأخذت أذرع أرض الحجرة بقلب مفعم بالقلق والخوف. فمنذ خمسة أيام وأنا أعيش في جحيم لا يُطاق من الرعب، ذلك الرعب الناجم عن العجز المطلق والشعور بالتشاؤم. إن النوم لم يتطرّق إلى عينيّ، وأفكاري أوغلت في الظلمة من غير أن أرى أي بصيص من الرجاء. وتساءلت للمرة الألف:

 

- ترى أين هي الآن؟ كيف اختفت فجأة من غير أن تترك خلفها أيّ أثر؟ إنها طفلة صغيرة لم تبلغ الخامسة من عمرها بعد. آه، يا إلهي أعدها إلينا سالمة..

وأحسست بالدموع تذرف من عينيّ، وبقلبي ينزف دماً، وتمتمت:

- آه، يا ابنتي ”سُهير“، إنني أكاد أموت من العذاب.

وراحت الخواطر تهاجمني بعنف، وتراءت لي صور مبهمة تبعث على الرعب، وأخذت قصص مفزعة تتردّد في رأسي؛ قصص نشرتها الصحف، والمجلات، وأذاعتها أجهزة التلفزيون، والراديو. هل هناك من اختطفها وأساء إليها وربما قتلها ودفنها في مكان مجهول؟ إنني لم أترك حجراً فوق حجر من غير أن أقلبه، وبقيت على اتصال برجال الأمن والمباحث، بل إنني قمت باستئجار تحرّي خاص، ولم أبخل بالمال أو الجهد للعثور عليها، فسهير هي ابنتنا الوحيدة، وأكثر من ذلك، فإن زوجتي لم تعد قادرة على الإنجاب بعد إجراء عملية للرحم. إن نبضات قلبي تتقطع في صدري وأجد نفسي وكأنني ضائع في قفر بلقع.

وحملتني أفكاري إلى زوجتي التي اعتصمت بحجرتها راكنة إلى الصمت وكأنها تعيش في غيبوبة فقدت فيها الإحساس بالزمان والمكان. لقد تجمدت العبرات في مآقيها وبـِتُّ أخاف أن يصيبها مكروه من جراء هذه الفاجعة. ولكن هناك ما كان يحيّرني فيها. فقد سمعتها في لحظة من لحظات يقظتها تصلي قائلة:

- يا رب، أنا أعلم أنك سترد لي ابنتي فلا تخيّب لعبدتك رجاء.

ثم تعود إلى صمتها وإلى تلك النظرة الفارغة التي تحدّق في الفضاء البعيد. وعلى الرغم من شعوري باليأس، ابتدأت أفكر بالتغيير الذي طرأ على زوجتي منذ أكثر من ستة أشهر. إن ”سلوى“ التي كنت أعرفها عندما تزوجتها كانت تختلف عن ”سلوى“ التي اعتنقت ما سمته باختبار الخلاص.

في بادئ الأمر، لم آخذ هذا الإيمان الجديد بعين الاعتبار، وظننت أنها ”هوسة“ طارئة لا بد أن تمرّ كغمامة صيف. ولكن ما رأيته في حياتها من تغيير، وقراءتها للكتاب المقدس وتردّدها على الكنيسة، وقضاء فترات صلاة صباحية تخلو فيها إلى الله وتحدثه كما يحدّث الصديق صديقه أو الابن أباه، أثار في نفسي الفضول، وجعلني أسألها عن إيمانها وماذا تقصد بالاختبار الجديد. وعلى الرغم من شروحها التي كانت تقتبس أصولها من الكتاب المقدس، وعلى الرغم من نبرة الصدق التي نمّت عنها عباراتها، فإنني لم اقتنع بحججها، ورأيت أن نزعتها الروحية لا بدّ أن تخمد جذوتها عن قريب. ولكنها ظلت متمسّكة بإيمانها، بل راحت تشهد عن هذا الإيمان لرفيقاتها وتدعوهنّ لحضور الاجتماعات الدينية التي تُعقد كل أسبوع. وأكثر من هذا، أخذت تمتنع عن التمتّع بكثير من مباهج الحياة التي أصبحت في رأيها لا تتفق مع القيم المسيحية. ووجدت نفسي أذهب إلى تلك الحفلات وحيداً وأحاول أن أتظاهر بالبهجة، ولكن كؤوس الخمرة التي أجرعها كانت تجسيداً حياً عن الفراغ الذي يملأ حياتي.

دارت جميع هذه الخواطر في نفسي، وأنا أستعرض هذه الفترة من حياتنا، وخطر ببالي سؤال:

- ما الذي يحدث لإيمانها إن لم ترجع ابنتنا ”سهير“ سليمة معافة؟ هل تظل ثابتة على إيمانها؟

 وظل هذا السؤال معلّقاً في الهواء.

وفي صباح اليوم التالي، نحو الثامنة، فيما كنت أرتشف فنجان القهوة، أقبلت زوجتي من مخدعها، وفي عينيها شبه بريق ينمّ عن ومضة أمل لم أعهدها في خلال الأيام السابقة. تطلعت إليها بدهشة وهمستُ:

-  كيف تشعرين الآن؟

أجابتني بصوت يرتعش بنبرة واثقة:

- إنني بخير، وأريد أن أقول لك شيئاً، لكن أرجوك أن لا تسخر مني.

- أعدك بذلك.

- في هذا الصباح، ولأول مرة منذ أكثر من خمسة أيام فتحت الكتاب المقدس وأخذت أقرأ فيه، فطالعتني الآية التالية: ”لا تخف، أنا معك“. فشعرت وكأن كلمات هذه الآية تتألق بنور غريب، بل بدا لي أنها وعد من الله لي بأن ابنتنا ستعود إلينا سليمة. وعندما صليت شعرت باليقين يملأ قلبي.

تأملت في محياها، فرأيت إمارات الارتياح والشعور بالطمأنينة ترتسم عليه، وكأنما عدوى إيمانها قد انتقلت إليّ، فساورني إحساس خفي بالرجاء؛ فجأة، راودني الشك، وفكّرت:

- أية كارثة ستصيبها وتصيبني إن كان هذا الأمل الذي يغمرها الآن ليس سوى سراب خادع؟ ألا يكون هذا الإخفاق مأساة رهيبة تمزّق إيمانها وتحطم يقينها؟

ولكنني لجأت إلى الصمت ولم أبح بما يدور في خلدي. غير أن هذه الأفكار  المزعجة ظلت تغزو مخيّلتي، فكنت أترجّح ما بين الرجاء واليأس..

وانقضى على هذا الحديث ما يقرب من يومين، فراحت جذوة الأمل تخمد في نفسي، وشرعت أراقب زوجتي عن كثب ولكن لم يبدُ عليها ما يضعف إيمانها أو يبدّد من يقينها.

وقضيت معظم وقتي بالاتصال مع رجال الأمن والمباحث ومع التحرّي الخاص. كنت أرتقب بفارغ الصبر أن أسمع خبراً، أيّ خبرٍ وإن كنت أميل إلى الاعتقاد أن الأنباء التي ستصلني لا بُدّ أن تكون مثقلة بالفواجع.

وفي مساء يوم الخميس، أي في اليوم التالي من حديثي مع زوجتي رنّ جرس الباب الخارجي، وعندما فتحته، طالعني محيّا ضابط الأمن المسؤول عن دائرة منطقتنا. بادئ ذي بدء خُيّل إليّ أنه يحمل لي ذلك الخبر المشؤوم الذي كنت أتوقّعه، إذ بدت لي أساريره جامدة، وصوته مثقل بالجدية. وقبل أن أنطق بكلمة قال لي:

- لديّ أخبار سارة لك ولزوجتك، لقد عثرنا على ابنتك سليمة.

أحسست بخفقات قلبي تتسارع، وشاعت عيناي غير المصدقتين نحو الطريق أبحث عنها، ثم هتفت:

- أين هي؟ أخبرني أين هي!

إنها معنا، هنا في سيارة البوليس.

وقبل أن يتمّ جملته أسرعت نحو الطريق فاتحاً ذراعيّ، صارخاً:

- سهير.. سهير!!

وشاهدت رأساً يتراءى لي من نافذة السيارة، ثم رأيت بابها يفتح وتطل منه ابنتنا ”سهير“.

وألقت ”سهير“ نفسها بين ذراعيّ و... وأحسست بغتة بذراعين آخرين يعانقانها، ومن خلال غشاوة الدموع التي ملأت عينيّ رأيت زوجتي تضمّ ”سهير“ أيضاً إلى صدرها وكأنها تعيش في أروع حلم.

في تلك اللحظة انهارت الحواجز التي كانت تفصلني عن الله وشعرت كأن الرب يسوع يضمني إليه كما كنت أضمّ ابنتي المفقودة العائدة.

المجموعة: 200607