حزيران (يونيو) 2006

كلمات المسيح هي معجزة الحكمة الخالدة، فلم يتكلم إنسان قط بمثل ما تكلم الناصري. فعندما جلس على الجبل وفتح فاه، سكتت السماء وصمتت الأرض، فأصغت الأجيال إلى حكمة رب الدهور والأجيال.. وليس عجيباً أن يكون المسيح مبدعاً في كلامه، لأنه هو: "كلمة الله"!!!

 

1- صمت مبدع

على أنه إذا كان كلام المسيح بديعاً، فإن صمته أبدع. وإذا كان الصمت لغة القادر إذا عجز، فماذا نقول في صمت المسيح الذي أعجز الدهور؟!

لقد انزوى المسيح ثلاثين عاماً، ليظهر على مسرح الخدمة ثلاثة أعوام! فكأنه صمت ثلاثين عاماً ليتكلم ثلاثة أعوام! فكل عشرة أعوام من صمته يقابلها عام واحد من كلامه. فالصمت في حياته طغى على الكلام.

وإذا كانت البشائر قد احتفظت لنا ببعض أحاديث المسيح – وهي لا تزيد عن كونها مقتطفات من تلك الأحاديث – فإنها قد سجلت أيضاً بعض المواقف التي صمتت فيها "كلمة الله". وبعض تلك المواقف شهده الأصدقاء، وبعضها شهده الأعداء.

2- صمت المحبة

مرة تقدمت إليه امرأة كنعانية فينيقية طالبة إليه أن يشفي ابنتها المريضة، فلم يجبها بكلمة... هذا هو صمت المحبة يستحث به المرأة إلى الاستزادة من الطلب، والإلحاح في الصلاة، والتمادي في الإيمان، والإلحاح في التعلّق به فكانت النتيجة أنها أظهرت إيماناً لم يرَ المسيح مثله في إسرائيل!!

3- صمت موجّه

ومرة أخرى تقدّم إليه إنسان يسأل سؤالاً عجيباً: "أقليل هم الذين يخلصون؟" فلم يجبه المسيح عن هذا السؤال، ولعله أراد بصمته هذا أن يصب ماء بارداً على حماسة فضول السائل. فليس من حق إنسان أن يسأل عن عدد المخلصين، بل إن من واجبه أن يفحص نفسه ليعرف ما إذا كان هو مخلصاً أم لا، وأن يجتهد للدخول من الباب الضيق. وكم من كثيرين يريدون أن يسألوا في هذه الأيام عن موعد مجيء المسيح، فلا يجدون من المسيح ومن كتاب المسيح سوى الصمت، لأن المسيح يريدهم أن يستعدوا لمجيئه وليجتهدوا أن "يوجدوا عنده بلا دنس ولا عيب". هاتان المرتان صمت فيهما المسيح أمام أصدقائه، والإنجيل يحدثنا عن ثلاث مرات صمت فيها المسيح قدام أعدائه – ولست أقصد بهم الذين جعلهم المسيح أعداء له، فليس للمسيح أعداء بهذا المعنى، لأنه أحب الجميع، وإنما أودت بهم الناس الذين نصبوا أنفسهم لمعاداة المسيح، فاتخذوا لأنفسهم بالنسبة له موقفاً معادياً..

4- صمت رهيب

المرة الأولى التي صمت فيها المسيح أمام أعدائه هي تلك المرة التي أرهب فيها قيافا بصمته الرهيب، يوم طلب رئيس الكهنة المزيف من "رئيس الكهنة الأعظم" أن يردّ على شهادة شهود الزور، فلم يجبه بشيء. وكيف يجيبه وقد جلس الرجل على كرسي القضاء بعد أن أعد الحكم وكتبه؟!! ألم يبد رأياً مبتسراً في الأمر يوم أفتى قائلاً: "خير أن يموت واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها" وفضّل بهذا خيره الزمني على خلاص نفسه الأبدي!!

إن رجلاً كهذا لا يجد من المسيح سوى الإعراض والصمت، لأنه مغرض في حكمه، وقد أوصد باب قلبه ضد الحق، وأغمض عينيه أمام النور، فحرم نفسه المزيد من الإعلانات "فلا يظن رجل كهذا أنه ينال شيئاً من عند الرب".

5- صمت هادف

والمرة الثانية التي صمت فيها الفادي أمام أعدائه هي يوم سكوته أمام هيرودس الذي يحدثنا عنه لوقا قائلاً: "وأما هيرودس فلما رأى يسوع فرح جداً، لأنه كان يريد من زمان طويل أن يراه، لسماعه عنه أشياء كثيرة، وترجّى أن يراه يصنع آية. وسأله بكلام كثير فلم يجبه بشيء" (لوقا 8:23-9).

وكيف يجيبه وهو نفس الرجل الذي قتل يوحنا المعمدان الذي هو صوت الحق؟!! وكيف يتكلم الحق بعد أن أسكت هيرودس صوته؟! وكيف يسمح المسيح لنفسه أن يمتّع بصر هيرودس بشيء من معجزاته– كأنه يعمل المعجزات لمجرد إشباع غريزة حب التمتّع!! كلا! إن معجزات المسيح فدائية خلاصية، وكلامه درر غوال وهو لن يطرح مقدساته أمام الكلاب، ولن ينثر درره قدام الخنازير.

6- صمت أبلغ

والمرة الأخيرة التي صمت فيها المسيح أمام أعدائه هي تلك التي ظهر فيها أمام بيلاطس فسأله بيلاطس عن الحق ولم يتمهّل لينتظر جواباً، فأجابه المسيح بالصمت! وكان المسيح في صمته أبلغ منه في كلامه، وفي سكوته أبلغ منه في عظاته. وكيف يحدث المسيح بيلاطس عن الحق، وبيلاطس هو الذي عرف الحق ثم حاد عنه، يوم أقتنع ببراءة المسيح ولكنه لم يسر حسب اقتناعه بل سلك بموجب أهوائه؟!!

يا نفسي

فيا نفسي، عندما تقرأين كتاب الله الذي هو كلمة الله المكتوبة، هل تجدين منه صمتاً؟

وعندما تصلين إلى كلمة الله الحيّ، هل تجدين منه إعراضاً؟

إفحصي ذاتك أمامه لعلك تكونين واحدة من الحالات الخمس المذكورة آنفاً، أو لعلك تكونين مجموعة كاملة لهذه الحالات الخمس.

تصالحي معه يا نفسي، ولا تسكتي حتى يحدثك لأن صمته رهيب، ومن يستطيع الوقوف أمامه؟!!

المجموعة: 200606