أذار (مارس) 2006

مرض لعازر ويسوع لم يأتِ. مات لعازر، ويسوع لم يأتِ. طال الانتظار وأنتن لعازر، وأخيراً جاء يسوع. جاء من "دُفع إليه كل سلطان في السماء وعلى الأرض"
(متى 18:28). لاقته مرثا وجرى بينهما حوار. معظم الأحيان يكون حوارنا مع المسيح إما لوماً وعتاباً ليس فيه كلام مُجدٍ يرتكز على مبادئ، أو يتناول أهدافاً: أخي مات، لو أتيت لما كان قد مات، ولما كنا حزنّا. مع أن الرسالة كانت واضحة، "هذا المرض... ليتمجد ابن الله به".

 

لم نسمع أي كلام عن تمجيد ابن الله ولا أيَّ استفسار عن الكيفية. نشكر الله أن صدر يسوع رحب. عاتبته مرثا، أما هو فلم يعاتب، تشكّت لكن يسوع احتمل. هذه شخصيته؛ وهذا شأنه معنا خصوصاً في ظروفنا القاسية. أين مريم؟ إنها في البيت مستاءة. أحياناً نستاء وكأن الحق، كل الحق إلى جانبنا. نشكر الله أنه عندما تتعثـّر خطواتنا تأتي المبادرة من يسوع ويسوع يطلب مريم ليوضّح لها الصورة ويجلو الأمر.

يونان اغتمّ غمّاً شديداً وطلب الموت لنفسه. ويسأله الله: "هل اغتظت بالصواب...؟ فقال اغتظت بالصواب حتى الموت". وكأن الرب يقول له: أي صواب هو هذا، وبأي حق تغتاظ على يقطينة بنتِ ليلة لأنها يبست، ولا تشفق على ربوات من الناس الهالكين؟ (يونان 4).

الابن الأكبر غضب ولم يرد أن يدخل. خرج الأب يطلب إليه أن يدخل ليفرح بعودة أخيه. فكان جوابه: "لما جاء ابنك هذا... ذبحت له العجل المسمّن" يصحّح الأب بالقول: هذا ليس ابني فقط لكنه أخوك، الذي كان ميتاً فعاش وكان ضالاً فوُجد. وهذا يستوجب أن تستبدل غضبك بفرح. "كان ينبغي أن نفرح ونسرّ" بعودة أخيك (راجع لوقا 15).

جاءت مرثا إلى مريم قائلة: "المعلّم قد حضر وهو يدعوكِ" (يوحنا 28:11). المعلّم قد حضر وله معاملة خاصة معكِ. فشلانة، تعبانة، متألمة، مشتتة الأفكار، "هو يدعوك". جاءت مريم متّشحة بالسواد، شاحبة الوجه، وباكية. أربعة أيام من الحزن والنوح والبكاء الشديد، بالإضافة إلى أفكار كثيرة تدور حول أسباب تأخر المسيح. إن لعلاقتنا تأثيراً كبيراً في مجمل حياتنا، في سعادتها وفي شقاوتها، في حلوها وفي مرّها، في انتصارها وفي انكسارها.

لذلك نجد أن أكثر ما يتعبنا هو الأوضاع المعلّقة التي تنتظر تدخّل المسيح ووضع الأمور في مكانها. وهذا ما قالته مرثا: "لو كنت ههنا لم يمت أخي. لكني الآن أيضاً أعلم أن كل ما تطلب من الله يعطيك الله إياه". نحن بانتظار أن تفعل شيئاً أو تقول شيئاً. الأوضاع معلّقة ومجهولة وغير نهائية. يمكن أن تقول مات لعازر وانتهى الأمر. كما بإمكانك أن تفعل شيئاً لا نعلم ما هو. الله يقصد من خلال الأوضاع المعلّقة والمجهولة وغير النهائية أن يقدّس حياتنا من خلال الصبر والانتظار. لقد تعلّم إبراهيم الصبر والانتظار، كذلك يعقوب، ويوسف، وأيوب، وداود.

حين وصلت مريم، لم يخب ظن المسيح بأن تتصرف بطريقة عقلانية واعية فيها الكثير من العبادة. "فمريم لما أتت حيث كان يسوع ورأته خرّت عند رجليه". خرّت عند قدمي رب الحياة الذي في يده نسمة كلّ حي. وهذا واقع يفرض نفسه عندما نتواجه مع المسيح، "الحامل كل الأشياء بكلمة قدرته" (عبرانيين 3:1).

ومع أنها ردّدت الكلام نفسه الذي قالته مرثا: "يا سيد لو كنت ههنا لم يمت أخي"، لكن كلامها جاء بأسلوب لطيف وبلهجة رقيقة. كلام عابد لمعبود يدرك ضعفه، ولكنه يرجو نعمة أعظم.

كيف نفسّر هذا الخليط بين النعمة التي تعطي القوة، وبين الضعف الذي يتحكّم فينا أحياناً؟ فبينما نتمتّع أحياناً بإيمان ينقل الجبال، ترانا في مواقف معيّنة نرزح تحت ضعفنا وشكوكنا. وجّه يسوع نوعاً من اللوم إلى بطرس في وقت من الأوقات موبّخاً عدم إيمانه: يا قليل الإيمان لماذا شككت؟" (متى 31:14). كان هذا في ظرف معيّن، مفاجئ وغير منتظَر، لم يعتدْ عليه بطرس. نمرّ في ظرف قاس يضرب الشخصية ويهزّ الكيان فترتجّ الصورة أمامنا. ووسط حزننا وحيرتنا نضيّع المسيح، كما حصل لتلميذَي عمواس. فقدا الأمل والتعزية والرجاء، فكانا يسيران عابسين. ويأتي يسوع ليلهب القلب من جديد ويحرق هشيم الهزيمة.

والرب يلوم توما بالقول: "لا تكن غير مؤمن بل مؤمناً" (يوحنا 27:20). وأخاله، ومن خلاله، يقول لكل واحد منا: لماذا تتصرف وكأنك شخص غريب عن الإيمان، تتذمّر، وتتشكّى، وتستخدم أساليب العالم، وتواجه الظروف كما يواجهها الآخرون؟ تسلّحْ بسلاح الإيمان فتتصرّف تصرفات الإيمان.

عطشت هاجر قديماً في البرية، ومن شدة حزنها وألمها وحيرتها لم تجد ماء، إلى أن فتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء" (تكوين 19:21).

نظر غلام أليشع، "وإذا جيش محيط بالمدينة وخيل ومركبات" (2ملوك 15:6)، فخاف ولم يدرِ ماذا يجري حوله، وماذا ينبغي أن يعمل. أما أليشع فقد رأى بعين الإيمان أن الجبل مملوء خيلاً ومركبات نار. وأدرك أن "الذين معنا أكثر من الذين معهم" (2ملوك 16:6).

كثيراً ما نرزح تحت همومنا وضيقنا وحزننا ووضعنا المزري، فلا نعود نرى المسيح وبركات المسيح. لقد عبّرت مريم في عتابها عن ثلاثة أمور حسنة ومهمة. فهذا العتاب أولاً، ينمّ عن عاطفة ممزوجة باللوم: لماذا لم تأتِ سريعاً وتمنع موت أخي؟

وينمّ هذا العتاب ثانياً، عن محبة وثقة: لو كنت ههنا لما حصل ما حصل.

وثالثاً، ينمّ هذا العتاب عن إيمان راسخ: أنا أومن بأنك لو كنت ههنا لشفيت أخي.

وبعد أن عبّرت مريم عمّا في قلبها، أخالها تتفرّس في وجه يسوع لتقرأ انطباعاته، علّها تجد فيها أجوبة لتساؤلاتها. نحن غالباً ما نتكلّم، ونتشكّى، ونعاتب، ونصلّي، وقلّما ننتظر الانطباعات. تطلّعت إلى وجه يسوع لكي تقرأ، وماذا قرأت؟ رأت فيه وجهاً منزعجاً مضطرباً، "انزعج بالروح واضطرب". رأت وجهاً منزعجاً مما عملته الخطية في الإنسان. ورأت وجهاً مضطرباً من وضع الأختين المحبوبتين في مرحلة المخاض هذه. ورأت وجهاً حزيناً على ضعف الإنسان أمام قوة الأعداء وخصوصاً الموت.

ورأت، ويا لروعة ما رأت! رأت عينين مغرورقتين بالدموع، ودمعتين كبيرتين منسابتين على الوجه الكئيب، أدهشتا يوحنا فدوّن "بكى يسوع".

لم يبكِ يسوع عن عجز أو حيرة بل تعبيراً عفوياً عن محبة رقيقة، وعن مشاركة في وضع مؤلم ومحزن، فإنه "في كل ضيقهم تضايق" (إشعياء 9:63).

حين ينسانا الجميع، أو يُساء فهمنا، ولا أحد يدرك أحوالنا وأوضاعنا، هنالك من يعرف أحوالنا ويرثي لنا. وحين تَقصر كل السواعد عن مساعدتنا، ساعد الرب يمتدّ للدعم والمساعدة. وصل يسوع إلى القبر، وصل إلى التحدّي المبرمج، وطلب رفع الحجر، فإذا بمرثا تصرخ: "قد أنتن". وهل هذا يعني فقدان الأمل بعمل أيِّ شيء؟ وهل هذا يعني أن الأمر وصل إلى نقطة اللارجوع؟ وكأن مرثا تحاول أن تذكّر يسوع بأمر يجهله، وكأنها تقول للرب: أنا أعرف أن كل ما تطلب من الله  يعطيك لكن عليّ أن أذكّرك بأنه أنتن. نحن نريد أن نُعلمك إلى أين وصل الوضع. فحالة لعازر تختلف عن حالة ابنة يايرس، وعن حالة ابن أرملة نايين.

تبارك إلهنا الذي لا يتدخّل إلا في الأمور الصعبة. والأمور الصعبة لا تقوى عليها إلا يد المسيح. كم من مرة نمسك بأمورنا وأوضاعنا وأحوالنا ونتعارك معها، فتجرّحنا وتهشّمنا وتبقى الأوضاع على ما هي. لماذا لا نأتي إلى المسيح. لماذا لا نسلّم لمن يقول: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (متى 28:11)؟

صلاة قصيرة، وبصوت عالٍ، يأمر المسيح لعازر بالخروج من القبر: "لعازر هلمّ خارجاً". وتحصل المعجزة، "فخرج الميت". صرخ يسوع بصوت عظيم فسمع الجميع صدى صوته وعرفوا كيف تكون الأوامر الإلهية وكيف تكون النتائج المباركة.

بعد كل هذا المخاض وهذه الصعوبات، تأتي الخاتمة السعيدة، ولكنها تقتضي إيماناً وانتظاراً. تستوجب أشخاصاً يتوقّعون عاقبة على غرار عاقبة أيوب ويوسف وإبراهيم.

خرج لعازر فانقلب المأتم إلى عرس، وتحوّلت دموع الحزن إلى دموع الفرح، وتوارت دموع الفراق خلف بهجة اللقاء الجميل وجمع الشمل. وكانت النتيجة أن آمن به كثيرون من اليهود، وهكذا تحوّل المرض والموت إلى وسيلة يتمجّد بها الله.

هل نرضى بضرب الاستقرار؟ هل نقبل بالآلام والأحزان والصعوبات؟ هل نرضى بأن يتمجّد الله من خلالنا؟

ليت الرب يساعدنا حتى نضع نفوسنا من جديد بين يديه، ليس لنعرف ماذا يفعل، بل لنتأكد أنه يعمل لخيرنا ولمجده، فنتعلّم أن ننتظر الرب.

المجموعة: 200603