آب (أغسطس) 2007

الاسم يشير إلى الشخصية، وإلى التفرُّد، وإلى التخصيص، وإلى التشخيص. فإن قلنا: "الله" فإن هذا يعني شخصاً ذا كيان روحي، حي، دائم الوجود وواجب الوجود، لا محدود ويحوي المحدود، ظاهر في الكون لكنه ليس جزءاً منه، ذاته هي صفاته. وإن ذكرنا صفاته فما هي إلا مظهر من مظاهر وجوده، ومع هذا يبقى الله أحجية الفكر الديني والمنطق الفلسفي. سأل موسى ربه قديماً: ما اسمك؟

وسمع صوت عليم الفؤاد يجيب: "أهيه الذي أهيه"، أي "الكائن والذي كان والذي يأتي". وما هو العجيب هنا؟ الله روح لا شبيه له ولا نظير. إنني ضد مقولة أن الله، وحاشا لله: "هو أو هي". وأعيب على جهابذة اللاهوت والفقه في تعريف الله بأنه "من أو ما". إنه الجهل بعينه، فالروح لا تميّز بصفة معينة، ولا تحمل جينيات محددة، ولا تخضع لنظام الفصائل. "الله روح. والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا".

 

الله هو سر الكون وإله البشر، والمشكلة أن الله فوق مفهوم البشر، لكن "به نحيا ونتحرك ونوجد". إن الله هو العلم الغني عن التعريف، وهو البديهة الأزلية الكائن في ذاته والكامل في صفاته. الله عزّ وجلّ هو ضرورة الوجود، ومصدر الحياة، ومقياس الأخلاق، وحجة الإقناع الديني، وملجأ البشرية المعذبة، وينبوع السلام. الله هو موضوع فلسفة الكون، وكمال القيمة المطلوبة، وهدف الغايات العظمى، والقوة الدافعة للفضيلة، وقلب الفكر الفلسفي. الله هو اللازم في وجوده، والدائم في سلطانه، أعمق من الزمن، أبعد من الإدراك البشري، أوسع من كل الحدود، وأعلى من كل المقاييس. الله لا إله إلا هو واحد أحد، واحد في جوهره وأحد في لاهوته، تتعدد أسماؤه وتقترب من صفاته وتعجز عن فهمه خلائقه ومبروءاته. الله ليس الكون، فالكون أحد أعماله، والإنسان ليس الله، فالإنسان فقط خلق على صورته ومثاله، والمادة ليست الله، فالمادة خلقها الله من العدم وغير قابلة للفناء، والعقل ليس الله، فالعقل مركز الفكر ومنفذ التعبير وقبس من العقل الكلي. ومع أننا عرفنا الله بالعقل فالعقل بداية المعرفة، أما العقل الكلي فغير مدرك. الآن أعرف بعض المعرفة، لكن حينئذ وجها لوجه.    

الله فوق المنطق، كما أن الصانع يفوق المركبات والمخترعات. ويظل اسم الله اسماً حقيقياً، كائناً فوق الوجود المادي يحتوي كل عناصر الجمال والحب والعظمة والسيادة. قد يكون اسم الله وصفياً يحمل فكرة الخلق في كل الخلائق الكونية. إنه، عزّ وجلّ، الحقيقة المجرّدة والضرورة القصوى. قد تبدو صفاته متناقضة كما في الحب والعدل، أو الرحمة والعقاب، أو التوحيد والتثليث، لكنه لا يحتاج لخلائقه. انه العلة والمعلول، والمحرك الأوّل والجواب النهائي للمشكلات الفلسفية الدينية، والمجادلات اللاهوتية، والبيانات العلمية، والعلية.

إن ظهورات الله تعلن تفرُّده. تراءى لآدم وحواء، وصار موسى كليم الله، وأوحى للأنبياء برسالته، والله ظهر في الجسد، "وما صلبوه وما قتلوه ولكن شُبِّه لهم"، وهذا ما ردَّده الإنجيل المقدس: "صائراً في شبه الناس"، فاللاهوت لا يموت، والروح الإلهية لا تخضع للمعامل ولا لنظريات الفلاسفة. إذن ما تم في الصلب ما هو إلا أن "الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه، وواضعاً فينا كلمة المصالحة". الله ذاته هي صفاته، والصفات محملة على الذات العليا. أما إذا كانت صفات الله ليست ذاته، لصار الله شريكاً لصفاته التسعة والتسعين، فيكون الله قد تعدى تسعة وتسعين إلهاً، معاذ الله، بمعنى أن المحبة تتعادل مع المقام العلي. حقاً، "الكلمة صار جسداً" وليس أصبح جسداً.

إنني لا أرى مشكلة بين "دين دولة" وبين "حرية العقيدة"، أو بين النص والشريعة، إلا إذا كان الدين ديناً بلا أخلاق أو العقيدة عقيدة بلا رادع أو نهي. أتمنى لو سارع الحكام إلى الحدّ من قذف الأديان الأخرى ومخالفة أو عزل المتدينين الجاهلين حتى تتوقّف مهازل القضاء ومخالفات الأئمّة والقادة. أيها العلماء، ”إن أكرمكم عند الله أتقاكم“. إن حقوق الإنسان بديهيات تؤكدها الدساتير وترعاها مواثيق الحريات العالمية، فأحبّوا أعداءكم.

تحضرني الذاكرة بذلك اليوم عام 1957 عندما كنت في السادسة عشر تقريباً. دعاني صديقي لحضور أحد المبشرين اللبنانيين في بلدتنا. دخلت إلى المكان وانتابتني رهبة شديدة وسط حشد كبير، وكانت الرسالة عن ابن ضال باع أهله وأهلك نفسه في بلد بعيد. وشعرت أنني هو ذلك الابن الضال الذي صُلب المسيح لأجله. قبلت الرب يسوع المسيح مخلصاً شخصياً، وكانت صلاتي تلك الليلة ببساطة ومن أعماق قلبي، وتساقطت دموع التوبة مختلطة بفرحة اللقاء مع الله ونلت الحياة الأبدية. وتأكدت أن الله ليس فقط اسم بل قوة، وحياة، وحق، وطريق. هذا هو إلهي، فهل عرفته أنت؟

المجموعة: 200708