آب (أغسطس) 2007

نشأتْ في التاريخ البشري ممالك ودول عظيمة مرهوبة الجانب، وسادت في مناطق من هذه الأرض عشرات أو مئات من السنين، ولكنها جميعاً آلت للزوال لأن ممالك الأرض وإمبراطورياتها وقتية لها انقضاء ولو بعد حين لكن كلمة الله تعلن أن تجسد المسيح وعمله الفدائي كانا لكي ينشئ ملكوتاً من نوع آخر هو ملكوت النعمة التي شملت العالم كله. فقد أعلنه الله على أفواه الأنبياء وابتدأه المخلّص بكرازته، ورسّخه بموته الكفاري، وما زال الروح القدس يكمّله بعمله في قلوب المؤمنين وفي بنيان الكنيسة الجامعة المقدسة الرسولية.

 

لقد تنبأ إشعياء النبي عن تجسد المسيح وملكوته فقال بالوحي: ”لأنه يولد لنا ولد ونُعطى ابناً وتكون الرياسة على كتفه ويُدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام. لنموّ رياسته وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن وإلى الأبد. غيرة رب الجنود تصنع هذا“ (إشعياء 6:9-7). ويدوّن البشير مرقس في صدر بشارته: ”وبعدما أُسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله ويقول: قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالإنجيل“ (مرقس 14:1-15).

إن ملكوت الله هو حقيقة مركزية بالنسبة للإيمان المسيحي، وكل مؤمن ينتمي إلى هذا الملكوت ويعيش فيه ملتزماً بمقتضياته ومتمتّعاً بامتيازاته وبركاته. ورغم أن هذا العالم قد وُضع في الشرير كما تقول الكلمة الإلهية، لكن المسيح له المجد قد اقتحم سلطان الظلمة وأنشأ ملكوته في قلوب الكثيرين وسط زحمة هذا العالم المضطرب. وإن إنجيل الملكوت الذي كرز به الرب يسوع قد أنشأ انشقاقاً وانقساماً بين السامعين، فبينما كان الحديث عن ملكوت الله يحمل أخباراً سارة بالنسبة للبعض، فقد كان في نفس الوقت يحمل أخباراً سيئة بالنسبة للآخرين. وليس هنالك من مجال للشك في أنه توجد مملكة للظلمة تحاول إعاقة مجيء ملكوت الله ومقاومته أو التعتيم عليه. لكن السؤال الهام الذي يطرح نفسه على كل إنسان هو: أي ملكوت هو الذي تنتمي إليه أو تدين بالولاء له؟

أولاً: طبيعة ملكوت الله ورعاياه

¨  هذا الملكوت هو ملكوت غنى النعمة الإلهية

فممالك الأرض تغنى من تعب رعاياها بينما ملكوت المسيح يعتمد على غنى صاحب الملكوت إذ قد عرّف رعاياه بأنهم الفقراء، والبسطاء، والودعاء، والرحماء، والأنقياء القلب، وصانعو السلام، والمطرودون من أجل البر. وقد وهب الطوبى لجميع هؤلاء وهم أنفسهم بكل قناعة ورضى يصرحون بأنهم متكلون على غنى النعمة الإلهية ليس في الخلاص والتبرير وقداسة الحياة فقط بل في نوال الحياة الأبدية أيضاً.

¨  وهو ملكوت السعادة والبهجة

 فكل من انضوى تحت نطاق هذا الملكوت تغمره سعادة لا توصف ويشعر بهناءة الحياة بقرب المخلص مهما كانت الظروف الخارجية سيئة. وإنك لتلمس هذه السعادة تفيض من نفوس أولئك الذين تعرّفوا على خلاص المسيح بعد أن كانوا في بؤس رغم مباهج الحياة الأرضية وملذات الجسد. قال أحد كبار الممثلين الهزليين: ”نحن نقول فنُضْحِك الناس، ولكن قلوبنا في الداخل تبكي“. وبالمقابل، فقد قال أحد أبناء هذا الملكوت: ”كحزانى ونحن دائماً فرحون. كفقراء ونحن نغني كثيرين. كأن لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء“ (2كورنثوس 10:16).

¨  وهو ملكوت الديمومة والبقاء

 فلا يتغيّر ولا يتبدّل، لا يضعف ولا يتقلقل، وعناصر ثباته تلك مصدرها قوة وسلطان صاحب الملكوت الذي قال: ”لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب“، صخر الدهور الذي لا يتزعزع وليس لملكه انقضاء.

ثانياً: خصائص هذا الملكوت

1- هو ملكوت الحق

كثيرة هي الممالك والدول التي أُنشئت في هذا العالم وجميعها تفرض واجبات وتمنح حقوقاً لرعاياها، ولكن نادراً ما تجد مكاناً في هذا العالم يسير بحسب الحق. فالإنسان الطبيعي تتحكم به أهواؤه وشهواته وعلاقات القرابة والصداقة أو العداوة والبغضاء، وهذه تجعل الحق بمعناه الصحيح مفقوداً. فنحن نرى الظالم في كل مكان من هذا العالم، والقادرون على بعض الحلول يكيلون دائماً بمكيالين. أما ملكوت يسوع فهو ملكوت الحق الكامل كما يقول الكتاب: ”كل سبل الرب رحمة وحق“ (مزمور 10:25). لذلك فبنو البشر يبقون مستعبدين للبُطل والشر حتى يتعرفوا على شخصه المبارك. فقد قال له المجد: ”وتعرفون الحق والحق يحرركم“ (يوحنا 32:18).

2- هو ملكوت البر

ما أكثر ممالك الشر وكم يتألم الأبرار ويقاسون لأنهم يكرهون الشر. والبر بشكل عام هو العلاقة الصحيحة والنقية للإنسان مع خالقه ومع إخوته بني الإنسان. فبالنسبة للعلاقة مع الله، هو العيش بالاستقامة والكمال أمامه بحفظ وصاياه وعدم مخالفة شرائعه بدافع الحب لأن الله أحبنا أولاً! كما هو مكتوب: ”تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك“. وبالنسبة للعلاقة مع الناس فالبر يعني أن يعيش المرء مع الآخرين حياة المحبة واللطف والمسامحة وعدم ظن السوء وحب الخير للجميع كما عبّرت عنه الآية: ”تحب قريبك كنفسك“.

لكن البر المعني بملكوت الله هو البر الإلهي الذي سيحكم هذا الملكوت بالكمال والنقاء، بالحب والعدل والصفاء.

فما أعظم وما أجمل ملكوتاً يحكمه البر بعيداً عن كل شبه شر وكلمة الله تعلن: ”لأن ملكوت الله ليس أكلاً وشرباً بل بر وسلام وفرح في الروح القدس“ (رومية 17:14).

3- هو ملكوت سلام

ما أكثر الاضطرابات والحروب وما أشد البغضاء التي تسود الناس البعيدين عن ملكوت المسيح، ولكن سيأتي ذلك اليوم الذي يسود فيه السلام الحق كما تقول النبوّة: ”فيطبعون سيوفهم سككاً ورماحهم مناجل. لا ترفع أمة على أمة سيفاً، ولا يتعلمون الحرب فيما بعد“ (إشعياء 4:2). أما الآن فسلام هذا الملكوت يسود في قلوب رعاياه بقوة وسلطان الذي قال: ”سلاماً أترك لكم. سلامي أعطيكم. ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا“ (يوحنا 27:14).

والذين أطاعوا قوله ”وتعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم“ (متى 29:11)، فهو لم يشهر سيفاً ولا أشرع رمحاً أو أوتر سهماً ، لم يقد جيشاً ولم يصنع حرباً، لم يغزُ أرضاً ولا فتح بلداً، ولكن سيف كلمته الحية وسلطان محبته الفريدة افتتحا البلاد في مشارق الأرض ومغاربها، فدانت له النفوس والقلوب بحرية وافتُتِحت لحبه الذي غمر الكثيرين، فانضموا تحت لواء طاعته التي أسرتهم بتأثير محبته وسلامه العظيم.

ثالثاً: كيفية الانتماء إلى هذا الملكوت

من أعظم ما منح الله للإنسان نعمة الحرية، فهو لم يضغط على إرادة أبوينا الأولين حين أقامهما في جنة عدن، ولم يفرض عليهما الالتزام بوصيته والبقاء في طاعته - رغم أنه قادر على ذلك بكل تأكيد لو أراد - ولكنه بيّن لهما عاقبة العصيان! وقد أخطأ آدم وحواء بكامل اختيارهما إذ صدّقا خدعة الشيطان وشكّا في صدق مقاصد الله، فوقعا تحت حكم الدينونة والموت وانفصلا عن الله إذ طُردا من حضرته مع كامل الذرية التي كانت في صلبيهما، ولكنه بمحبته الفائقة كان قد أعدّ لهما خطة الفداء! وتجسّد في المسيح ليفتدي هذه البشرية الساقطة ويعيدهما إليه.

وحين أعلن المسيح تعاليمه ودعوته كَفِل تلك الحرية عينها للناس الذين جاءوا إليه، وذلك يثلج الصدر ويسر القلب لأن كل حي يتعشّق الحرية... فهو لم يستخدم لغة الترغيب ولا الترهيب بل ترك الحرية للجميع إذ قال: ”إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني“
(لوقا 23:6). وحين علّم اليهود عن أكل جسده وشرب دمه كناية عن قبول كفارته لغفران الخطايا، لم يفهم الكثيرون من تلاميذه ما قصده بذلك لعدم إيمانهم. يقول الإنجيل: ”من هذا الوقت رجع كثيرون من تلاميذه إلى الوراء ولم يعودوا يمشون معه. فقال يسوع للاثني عشر: ألعلّكم أنتم أيضاً تريدون أن تمضوا؟ فأجابه سمعان بطرس: يا رب. إلى من نذهب؟ كلام الحياة الأبدية عندك؟ ونحن قد آمنا وعرفنا أنك أنت المسيح ابن الله الحي“ (يوحنا 66:6-69).

فتلك هي خطة الله إلى منتهى الدهر. وأنت أيها الإنسان حرّ ومسؤول عن مصيرك الأبدي.. ولكنه يشفق عليك من أن  تتطوع في ملكوت ضلالٍ وهلاك أبدي لأنه ”يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون“ (1تيموثاوس 4:2). فنحن نأتي إليه بكامل حريتنا واختيارنا بالحب والإيمان والتوبة فنخلص ونصبح من رعايا ملكوته السامي.

المجموعة: 200708