آب (أغسطس) 2007

في الحلقات السابقة تحدثنا عن يعقوب الغريب المتألم الذي رأى أن الحياة غربة نقضيها في هذه الدنيا، سواء كانت فيها أفراح أو أتراح، راحة أم تعب، لا بد أن تنتهي ونرحل منها إلى الأبدية. وتحدّثنا عن الجاهل المؤمّل الذي وضع قلبه وثقته وأمله فيما يملك في هذه الحياة، فترك كل شيء ورحل من هذه الحياة بلا كنوز وبلا رجاء. والآن لنتأمل في نظرة الرسول بولس، الرسول المتعلم:

 

تقابل شاول الطرسوسي مع الرب يسوع في طريق دمشق ونال الاختبار الجديد، وقبِلَ يسوع رباً ومخلصاً شخصياً لحياته. كان بولس قد تلقى علومه الناموسية على يدي غمالائيل أحد أشهر معلّمي زمانه. والرب يسوع دعاه لخدمته وحمل بشارة الإنجيل للأمم.. وقد اختبر الآلام واجتاز في الاضطهادات والتجارب المتنوّعة والمحرقة في حياته، وتعلّم منها أكثر مما تعلّمه عند قدميّ غمالائيل. هذا الرجل العظيم والرسول الملهم كان له نظرة وفلسفة عظيمة في الحياة، نستطيع أن نكتشفها في رسائله المباركة، نذكر بعض جوانبها فقط؛ فقد نظر إلى الحياة بأن:

1- ربح المسيح أهم ربح في الحياة

يقول في رسالته إلى كنيسة فيلبي: ”لكن ما كان لي ربحاً فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة. بل إني أحسب كل شيء أيضاً خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي، وأوجد فيه... لأعرفه، وقوة قيامته، وشركة آلامه، متشبهاً بموته“ (فيلبي 7:3-10). اعتبر الرسول بولس أن معرفة المسيح هي أهم ربح له في هذه الحياة، أهمّ من النسب والحسب، وأهم من العلم والمال، أهم من الأمة والسبط اللذين ينتمي إليهما، بل أهم من الناموس والطقوس... اعتبر أن أي ربح أو مكسب آخر بالنسبة له هو نفاية وزبالة، لا قيمة له في نظره. أما شخص المسيح فهو أعظم ربح له، هو كل شيء له، هو الأهم والأعظم في حياته!

ماذا عنك أيها القارئ، أي كفة في ميزانك هي الأرجح عندك، العالم والحياة بما فيهما، أم يسوع الذي أحبّك وخلّصك؟

والرسول بولس تأكد أن،

2- مجد المسيح وخدمته أشرف من مجد العالم وعظمته

كان يعلم جيداً أن الرب انتخبه إناء مختاراً ليحمل اسمه أمام ملوك وبني إسرائيل، وكان يعلم جيداً أنه سيتألم من أجل اسم المسيح (أعمال 15:9-16)، فاعتبر هذا امتيازاً وشرفاً عظيماً بالنسبة له. إنه يقول بملء فمه وهو في قيود وسلاسل السجن: ”والآن يتعظّم المسيح في جسدي سواء بحياة أم بموت، لأن لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح“ (فيلبي 20:1-21)، ”أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع“ (فيلبي 14:3). كان مجد المسيح وخدمته هما الهدفان الأساسيان في حياته، وكان غرضه ربح النفوس لتنضم إلى ملكوت الله، ولهما الأولوية عن أي ربح آخر أو مجد شخصي، حتى أنه يقول: ”أقول الصدق في المسيح، لا أكذب، وضميري شاهد لي بالروح القدس: إن لي حزناً عظيماً ووجعاً في قلبي لا ينقطع! فإني كنت أودّ لو أكون أنا نفسي محروماً من المسيح لأجل إخوتي أنسبائي حسب الجسد“ (رومية 1:9-3). ويقول أيضاً عبارات يجب أن نقف أمامها ونفكر فيها عميقاً مثل، ”لأنه إن كنت أبشّر فليس لي فخر، إذ الضرورة موضوعة عليّ، فويل لي إن كنت لا أبشّر... فإني إذ كنت حراً من الجميع، استعبدت نفسي للجميع لأربح الأكثرين“ (1كورنثوس 16:9 و19).

آه، من هو الذي يرضى على نفسه أن يكون عبداً للجميع ليربح النفوس؟! لقد قَبِل الرسول على نفسه هذه الحالة لأنه وضع مجد المسيح وخدمته أولاً في حياته.

ماذا عني وعنك أيها الأخ وأيتها الأخت؟ ليساعدنا الرب لتكون الأولوية في حياتنا لمجد المسيح وخدمته أكثر من مجد العالم الزائف.

بولس الرسول المتعلم له نظرة أخرى للحياة، فاختبر أن:

3- التقوى مع القناعة أعظم تجارة في الحياة

قال الرسول بولس: ”تعلّمت أن أكون مكتفياً بما أنا فيه“ (فيلبي 11:4)، وقال أيضاً: ”أما التقوى مع القناعة فهي تجارة عظيمة، لأننا لم ندخل العالم بشيء وواضح أننا لا نقدر أن نخرج منه بشيء، فإن كان لنا قوت وكسوة فلنكتفِ بهما“ (1تيموثاوس 6:6-8).

يُحكى عن رجل غني، حدثت في أيامه مجاعة، فجمع في بيته كل أولاد المدينة الفقراء وقال لهم: ”انظروا هذه السلة المملوءة خبزاً، فليأخذ كل منكم رغيفاً منها، واعلموا أن ذلك سيحدث كل يوم في مثل هذه الساعة حتى تنتهي المجاعة“. وفي كل يوم، كان الأطفال يجتمعون حول السلة ويتشاجرون، إذ يحاول كل منهم أن يحصل على أكبر رغيف، ثم ينصرفون دون تقديم الشكر ولو مرة واحدة لصاحب هذه السلة. إلا أنه كانت هناك فتاة صغيرة اسمها فرنسيسكا، وهي فقيرة جداً، وكان من عادتها أن تنتظر آخر الكل وتأخذ الرغيف الأصغر المتبقي الذي تركه الأولاد، ثم تتقدّم بالشكر لصاحب السلة. وفي يوم تشاجر الأولاد بعنف كعادتهم وأظهروا طمعهم في الحصول على الرغيف الأكبر، وتبقّى لفرنسيسكا المسكينة رغيف أصغر من الأرغفة الأخرى بقدر النصف، ولكن حين رجعت إلى والديها وقطعت أمها المريضة الرغيف، سقطت منه بعض قطع الفضة الجديدة، فتحيّرت والدتها وقالت لها: ارجعي بسرعة وردي حالاً هذه الفضة لصاحبها، ولا شك أنها وُجدت في الرغيف عن طريق الخطأ... فأطاعت فرنسيسكا أمها وذهبت إلى الرجل الغني ومعها النقود الفضية، غير أن الرجل الغني رفض استرجاع الفضة وقال: إنني لم أفعل هذا نتيجة خطأ، لكنني قصدت أن أضع هذه الفضة في أصغر الأرغفة لكي أكافئ بها الشخص القانع الذي يرضى أن يأخذ الرغيف الأصغر. فهذه مكافأة مني لكِ أيتها الابنة المطيعة.

تأمل فيما يقوله الكتاب: ”في بيت الصدِّيق كنز عظيم... القليل مع مخافة الرب خير من كنز عظيم مع همّ. أكلة من البقول حيث تكون المحبة خير من ثور معلوف ومعه بغضة“ (أمثال 6:15 و16-17).

ولقد كان للرسول بولس فلسفة في الآلام، فقد رأى،

4- أن آلام الزمان الحاضر بوابة للمجد العتيد

قال: ”... أنه بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت الله“ (أعمال 22:14)، ويقول في رومية 18:8 ”فإني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا“. امسح دموعك أيها المتألم لأن المجد العتيد ينتظرك، ويسوع نفسه يلتقي معك ويكفكف لك دموعك.

عزيزي القارئ الكريم، لقد دار حديثنا في هذه السلسلة عن شخصيات من الكتاب المقدس كان لكل منها رأيه ونظرته في الحياة. والآن، ما هي نظرتك أنت للحياة؟ هل لك نظرة مشابهة لنظرتهم؟ أم لك وجهة نظر أخرى مختلفة؟

ومهما كانت فلسفتك ونظرتك للحياة، فنحن جميعاً نحتاج أن ندرك جيداً أن الحياة الحاضرة مرحلة زمنية مؤقتة تقودنا إلى مرحلة أبدية دائمة.

الحياة هنا مرحلة استعداد، وعبادة، وخدمة، وتمجيد اسم الرب يسوع، تقودنا إلى مرحلة جديدة مملوءة بالفرح الكامل، والسعادة الحقيقية، والمجد الأسنى الأبدي مع حبيبنا ومخلصنا الرب يسوع. وأن ما يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً.

المجموعة: 200708