كانون الأول (ديسمبر) 2007

رأينا في الحلقات السابقة أن يهوذا كتب هذه الرسالة القصيرة الثمينة ليحرّضنا على التمسك بالإيمان الصحيح ولكي لا نفرط فيه أبداً، لأنه هناك معلمون كذبة دخلوا خلسة بين المؤمنين ينكرون الحقائق الأساسية للإيمان المسيحي. وأكد لنا أن الدينونة لا بد أن تقع عليهم، وأنهم سلكوا طريق قايين وانصبوا إلى ضلالة بلعام وهلكوا في مشاجرة قورح. والآن سنواصل دراستنا ابتداء من الآية الثانية عشر. في عدد 12 يصفهم بثلاث صفات:

 

أولاً: ”هؤلاء صخور في ولائمكم المحبية“. والمقصود بالصخور هنا هو الصخور المختفية تحت الماء التي تحطم السفن. كان المؤمنون في القرن الأول يتشاركون في وليمة محبة حين يجتمعون معاً ليعملوا عشاء الرب تذكاراً لموته لأجلنا. هؤلاء المعلمون الكذبة كانوا يشتركون معهم في هذه الولائم يمتعون أنفسهم بلا خوف أي بلا حياء ”راعين أنفسهم“، أي بهدف أناني، فانطبق عليهم القول: ”هم أعداء صليب المسيح، الذين نهايتهم الهلاك، الذين إلههم بطنهم ومجدهم في خزيهم الذين يفكرون في الأرضيات“
(فيلبي 17:3-19).

ثانياً: ”غيوم بلا ماء تحملها الرياح“. الماء في الكتاب المقدس يشير إلى كلام الله كما يستخدمه الروح القدس. أما هؤلاء المعلمون الكذبة فيشبهون غيوم بلا ماء. ينتظر الزارع الغيوم التي تحمل له المطر ليجني الثمار، ولكن للأسف هؤلاء ليس عندهم الماء الذي هو كلمة الله. قد يتكلمون كثيراً، ويلقون خطباً في غاية البلاغة ولكنها لا تروي ولا تنفع. مثل الغيوم التي تحجب النور ولا تنفع الزارع إذ ليس فيها ماء. هؤلاء أيضاً تحملهم الريح والذين يستمعون لهم. ”مضطربين ومحمولين بكل ريح تعليم بحيلة الناس. بمكر إلى مكيدة الضلال“ (أفسس 14:4).

ثالثاً: هم ”أشجار خريفية بلا ثمر ميتة مضاعفاً مقتلعة“. كغيوم بلا ماء، كأشجار خريفية هم بلا ثمر، ولا عجب أنهم أشجار ميتة لأنهم لم ينالوا حياة جديدة، حياة من الله. فالإنسان بطبيعته ميت روحياً، ميت بالذنوب والخطايا، ولكنه ينال حياة جديدة بالإيمان بالمسيح. أما هؤلاء فكيف يؤمنون وهم ينكرون السيد الوحيد ربنا يسوع المسيح. أما قوله ”ميتة مضاعفاً“ فيشير إلى موتهم، أموات الآن وسيذهبون إلى الهلاك الأبدي، الذي هو ”الموت الثاني“ (رؤيا 14:20).

في عدد 13 يستمر في وصفهم فيقول:

أولاً: إنهم ”أمواج بحر هائجة مزبدة بخزيهم“. في إشعياء 20:57-21 يقول: ”إن الأشرار فكالبحر المضطرب لأنه لا يستطيع أن يهدأ، وتقذف مياهه حمأة وطيناً. ليس سلام قال إلهي للأشرار“. هم دخلوا خلسة بكل هدوء، ولكنهم أصبحوا كالبحر الهائج. ما أقسى غضبهم وشرهم والنجاسات التي اتصفوا بها! وهذا واضح لمن يدرس تاريخ الكنيسة الاسمية.

ثانياً: ”هم نجوم تائهة محفوظ لها قتام الظلام إلى الأبد“. كان الملاحون يعتمدون على موقع النجوم الثابت ليعرفوا الاتجاه الصحيح، ولكن النجوم التائهة لا ترشد بل تضلل... وهذا هو الحال مع المعلمين الكذبة. ولكن ما هو مصيرهم؟ الجواب هو ”محفوظ لها قتام الظلام إلى الأبد“. فهذه النجوم بدلاً من أن تنير في الظلام هي نفسها مصيرها الظلام. لاحظ كلمة ”إلى الأبد“! فكما قال عن سدوم وعمورة أن مصيرها ”عقاب نار أبدية“، كذلك يقول عنهم أن مصيرهم ظلام أبدي. وهو الذي وصفه المسيح بأنه الظلمة الخارجية ”هناك البكاء وصرير الأسنان“. بعض المعلمين الكذبة ينكرون العقاب الأبدي، وللأسف بعض المؤمنين صدقوا هذا الكلام الكاذب.

في عدد 14 يقول: ”وتنبأ عن هؤلاء أخنوخ السابع من آدم“. وقوله السابع من آدم“ يؤكد لنا أنه أخنوخ المذكور في تكوين 18:5-24)، أي أخنوخ الذي سار مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه“، فلأنه سار مع الله أعلن له الله أفكاره لأن سر الرب مع خائفيه. يقول في عبرانيين 5:11 ”بالإيمان نُقل أخنوخ لكي لا يرى الموت ولم يوجد لأن الله نقله، إذ قبل نقله شُهد له بأنه ”أرضى الله“. هناك آخرون باسم أخنوخ مثل حنوك ابن قايين، لأن حنوك هو نفس الاسم مثل قايين في اللغة العبرية. أخنوخ السابع من آدم هو الذي تنبأ قائلاً: ”هوذا قد جاء الرب في ربوات قديسيه ليصنع دينونة على الجميع، ويعاقب جميع فجارهم على جميع أعمال فجورهم التي فجروا بها، وعلى جميع الكلمات الصعبة التي تكلم بها عليه خطاة فجار“. لم تسجل هذه النبوة في العهد القديم ربما لكيلا يظن أحد أنها تمت في حادثة الطوفان. وذكرها يهوذا بخصوص المعلمين الكذبة لنعرف أنها عن أمر مستقبل لا بد أن يتم. أما أنها قيلت بصيغة الماضي فلأن هذه طبيعة النبوات، كما جاء في إشعياء 53 ”أن الرب وضع عليه إثم جميعنا“ أو ”أنه سكب للموت نفسه“. فقوله هوذا قد جاء الرب في [أو ”مع“ أو ”في وسط“] قديسيه يشير إلى مجيء الرب الثاني مع القديسين الذين صعدوا قبلاً إلى السماء (انظر 1تسالونيكي 13:4-17). لقد أتى المسيح مرة لكي يموت من أجل خطايانا، ولكنه سيأتي ثانية ليدين الجميع، ويعاقب كل فجارهم. سيعاقبهم على أعمالهم (ومنها محاولاتهم لخداع المؤمنين)، وعلى كلماتهم. يا له من إنذار خطير! معلمون كذبة أخذوا مكان القيادة، بل الرياسة بين المؤمنين، وهم فجار في أعمالهم وفي كلامهم. حقاً ما أكثر الكلمات الصعبة! بل الكلام القبيح الذي تفوّه به هؤلاء الفجار فانطبق عليهم ما جاء في مزمور 12:69 عن المسيح: ”يتكلم فيّ الجالسون في الباب، وأغانيّ شرابي المسكر“. يسجل لنا التاريخ عن شخص بارز كان يدّعي الرياسة في الكنيسة في العصور الوسطى أنه قال لأتباعه: ”كم ربحنا من خرافة يسوع المسيح“!! نحن نفضل أن لا نتذكر أقوالهم الخبيثة. لقد ظنوا أنهم ربحوا، لكن الوحي المقدس يعلمنا أنه لا بد أن تقع عليهم الدينونة.

في عدد 16 يصف هؤلاء الفجار بأنهم ”مدمدمون متشكون“، أي يتذمّرون كثيراً، فهم غير شاكرين بل يتذمرون كما كان بنو إسرائيل قديماً. الأمر الذي نصحنا ضده الروح القدس على فم الرسول بولس قائلاً: ”ولا تتذمروا كما تذمر أيضاً أناس منهم فأهلكهم المهلك“ (1كورنثوس 10:7). هؤلاء المعلمون الكذبة لا يكتفون بما عندهم لأنهم يريدون أن يسلكوا بحسب شهواتهم. كما قال يعقوب: ”تطلبون ردياً لكي تنفقوا في لذاتكم“ (يعقوب 3:4). ”وفمهم يتكلم بعظائم“. وبذلك يخدعون قلوب السلماء“. ما أكثر ادعاءاتهم! فمنهم من يدّعي أنه معصوم عن الخطأ، أو أن الله قال له اعمل هذا أو ذاك، بدون أن تكون له أي شركة حقيقية مع الله. وهذا هو ما اتصف به مؤسسو الهرطقات. ليس ذلك فقط بل هم ”يحابون بالوجوه لأجل المنفعة“. هذا كلام واضح لا يحتاج إلى تعليق، إلا أنه مكروه عند الرب. وقد وبّخ الرب هذا النوع من الرياء في رسالة يعقوب 1:2-8.

لقد أعطانا الله هذه الأوصاف بخصوص المعلمين الكذبة لكي لا نُخدع مهما كانوا أذكياء وعندهم لباقة وبلاغة في الكلام. لذلك في الآيات الباقية من هذه الرسالة يقدم لنا نصائح عملية ثمينة لحمايتنا من الفخ الذي ينصبه لنا هؤلاء المرتدون المبتدعون للضلالات. وهذا سيكون موضوعنا في الحلقة القادمة والأخيرة من هذه السلسلة إن شاء الرب وعشنا.

المجموعة: 200712