كانون الأول (ديسمبر) 2007

اختلجتْ أحاسيسي فيَّ، وراحَ الشوقُ يدفعُني لأُعرِّجَ على بلدتي الصغيرة، حيث نشأتُ وترعرعتُ وتربَّيت، وأزورَ أصحابها، علّي أرى أترابي وأحبابي، فأشحذَ بشخصي ذاكرَتهم وأُنهِضَ بكلامي عزيمتَهم، وأُلهِبَ بنار الروح قلوبَهم. دخلتُ إلى مجمع الناصرة، وكان اليومُ سبتاً. وكما جرت العادة دُفع إليَّ سفرُ إشعياء النبي. ففتحته وقرأت:

 

"روحُ الرب عليّ لأنَّه مسحني لأبشِّر المساكين لأشفي المنكسري القلوب لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعُمي بالبصر وأرسل المنسحقين في الحرية وأكرزَ بسَنة الرب المقبولة" (لوقا 16:4-19). ثم طويتُ السفر وسلَّمته إلى الخادم. ونظرتُ فإذا العيونُ شاخصةٌ إليَّ، وهي متلهِّفة للسماع. فقلت لهم: إنَّه اليوم قد تمَّ هذا المكتوبُ في مسامعكم. اليوم تحقَّقتْ نبوءةُ النبيّ، وها اليوم قد جاء لكي ترَوا بأعينكم وتسمعوا بآذانكم الخبر الذي يُسرّكم. اليوم هو يوم البشرى لكلِّ مسكين، واليوم هو يوم الشفاء لكلِّ منكسر القلب والحزين. اليوم أنادي بالحرية لكل المسبيِّين، وبانعتاقِ قيودِ كلِّ المأسورين. اليوم يا أحبابي، قد أتى لأعلنَ لكم طريقَ الرب المقبولة، وأيضاً بيومٍ ينتقم فيه الله ممَّن يرفضه هو يومُ الدينونة. اليوم أتى لكي أعزِّي النائحين، وأمنحَهم ثوبَ جمالٍ أخَّاذ عوضاً عن ثوب الرَّماد، وأسكبَ على رؤوسهم زيتَ الفرح والابتهاج بدلاً من النوح والبكاء. أتى اليوم لتنتعشَ كلُّ روحٍ يائسة إذ تلبسُ رداءَ التسبيح، ويُدعى كلُّ من يَعرف الرب بشجرةِ برٍّ هي غرسُ الربِّ نفسه ليعودَ المجدُ له كلُّ المجد. هذا هو اليوم الذي تحقَّقتْ فيه نبوءة النبي، وأنتم اليوم تشهدون بأعينِكم وتسمعون بآذانكم بشرى العزاء والفرح عساكم تدركون (إشعياء 1:61-3).

نظروا إليَّ بنو بلدتي، وشخَصوا بعيونهم متعجِّبين من كلماتٍ تحمل معاني الرحمة والعزاء والفرح لكل متألم وحزين ومحتاج. لم يتوقَّعوا هذا الكلام من الذي طالما انتظروه. فراحوا يردِّدون ويقولون: أليس هذا ابنَ يوسف؟ وتسمَّرتْ عيونُهم على ابن بلدتهم الناصرة الذي تربَّى بينهم ونشأ معهم، وها هو الآن ينبئُهم بأنباء الرحمة وبأخبار النعمة، يبِّشرهم ببشارة السرور ويقول لهم إنهم سيُدعون بأشجار البرّ وغرس الرب. هذا الكلامُ بقي غامضاً بالنسبة لهم، بل لم يُصِب توقعاتهم ويحقِّق لهم أمنياتهم التي طالما تاقُوا لكي تصبحَ واقعاً ملموساً. أرادوه أن يقضي لهم على أعدائهم الرومان فيخلِّصهم وينقذهم من ظلمهم وجَورهم. هكذا راحوا يفكرون. وطفا على السطح الشعور بعدم الرضا من كلام النعمة والرحمة التي شاركتُها معهم. فكشفتُ لأحبابي ورفقةِ صباي رفْضَهم إيَّاي وقلتُ لهم عندئذ: "الحق أقول لكم إنَّه ليس نبي مقبولاً في وطنه" (لوقا 24:4). الناصرة بلدتي ومكان تربيتي وأنتم أهلي وخلِّي وارتأيت أن أنبئكم بخبر الإنقاذ والخلاص، وها أنتم ترفضون. ألا تعلمون، حتى الآن؟ ألا تفقهون؟ ألا تذكرون ما دوَّنه الوحي المقدس عن  الجفاف والجوع اللَّذين حصلا في زمان إيليا النبي. لكنَّ إيليا لم يُرسَلْ إلا إلى امرأةٍ أرملةٍ إلى صرفة صيدا. تذكروا معي أيضاً البُرصَ الذين كانوا في إسرائيل زمان أليشع النبي هل طهُر أحد منهم؟ كلاّ بل الذي طهر واحدٌ فقط، هو نعمان السرياني. يا أهلي وأحبابي أفلا تعُونَ بعد، أنَّ آخرين قبلوا وأنتم ترفضون؟ كيف لا تفهمون بعد أنَّ يوم الإنقاذ والرحمة والخلاص قد أتيا، وأنَّ الآن قد تم هذا الذي تنبأ عنه إشعياء النبي. هذا هو الخبر السار يا أحبابي. لكنَّ الردَّ جاء عنيفاً، وامتلأ كلُّ من كانوا في المجمع في بلدتي الصغيرة الناصرة غضباً وحنقاً. وثاروا عليَّ، وقاموا وأخرجوني خارجَ المدينة يريدون طَرحي إلى أسفل الجبل. لكننَّي اجتزتُ من بينهم ومضيت.

انطلقت وقلبي مثقلٌ على صحبي وخِلاَّني. وجلْتُ في القرى والنواحي أعلِّم وأرشدُ الناس، كلَّ الناس إلى الطريق عساهم يتبعونه. بزغَ فجرٌ جديد في تاريخ سكان الأرض، والشعب الذي كان يسلك في الظلمة أشرقَ عليه النور. لكنَّ البعضَ أحبَّ الظلمة أكثر من النور. وجَّهت الدعوة إلى كثيرين، لكنَّ قليلون همُ الذين سمعوا لصوتي وتجاوبوا معي. ولمَّا رأيتُ الجموع تحرَّكت أحشائي فطفِقتُ أعلِّمهم بأن يغيِّروا النَّهجَ الذي يسيرون عليه، والذي تعلّموه من قادتهم.

فعلَّمتهم قائلاً: يا لسعادةِ الإنسان الذي يشعر بعوزه وفقره بالروح لأنَّه سينالُ ملكوت السماوات. ويا لسعادةِ الإنسان الذي يبكي ويحزن على خطاياه لأنَّه سرعانَ ما ينال العزاء الحقيقي. ويا لسعادة الوديع والمتواضع لأنه سيعرف كيف يعيش على هذه الأرض. ويا لسعادة كلِّ من يتوق إلى العدالة والصلاح لأنه سوف يشعر بالاكتفاء الكامل. ويا لسعادة الإنسان الذي يرحَمُ ويشفق على أخيه الإنسان لأنه هو نفسه سيُرحم. أمَّا نقي القلب فسيعايِنُ الله وصانع السلام يُدعى من أبناء الله، وكلُّ من يُثبت أمانته فسيرث ملكوت السموات.

مددتُ للناس يدي وأشفقت عليهم لأنهم بدَوا كالخراف التي لا راعي لها. وجِلتُ بينهم أستمع إلى حديثهم وأجلس معهم وألمس مرضاهم وأفتح عيون عميانهم، وأقيم موتاهم. لقد أحببتُ الناس كلَّ الناس، فتركتُ عرشي وأخليتُ نفسي واتخذت طبيعةَ البشر واجتزْتُ مثلهم بالآلام والأحزان فشعرتُ معهم كما وجُرِّبت مثلهم. وجُلُّ هدفي أن أرفع من شأنهم وأردَّ مكانتهم واعتبارهم فيعودون للشركة مع خالقهم ويَحيَون من جديد. نعم، جلتُ أصنعُ الخير والإحسان، وأشفي جميع المتسلط عليهم عدوُّ الخير والإنسان. نظرت إلى الضعيف واليائس ورددتُ له القوة والأمل، ومنحتُ العزاء لأرملة نايين وأحييت ابنها من الأموات، وكذا أقمتُ الصبية ذات الاثني عشر ربيعاً ودفعت بها إلى أمها لتطعمها.

مع هذا كله، لم أفتأْ عن سماعهم يقولون: أليس هذا هو ابن يوسف؟ يبدو أنَّ الإنسان لم يدرك بعد ماهيَّةَ هدية السماء. كلاَّ لم يفقهْ كُنهَ الطفل الذي وُلِد، ولماذا أتى إلى عالم البشر. هديةُ السماء هذه، نطق عنها روح الله القدوس وقال: اللهُ الظاهرُ في الجسد. هديةُ السماء إليك يا ساكناً في الغبراءْ هي صورةُ الله غيرِ المنظور. هديةُ السماء إليك ”هو بكرُ كلِّ خليقة. فإنه فيه خُلق الكل ما في السموات وما على الأرض ما يرى وما لا يرى سواء كان عروشا أم رياسات أم سلاطين. الكلُّ به وله قد خُلق. الذي هو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل“ (كولوسي 1:15-17).

منذُ بداية العصور وحتى الآن، الدعوةُ  موجهة إليكَ يا ابنَ آدم، يا خلِّي ويا حبيبي، عساكَ تعي كلامي وتدرك مَن أنا وتفهم أنَّني الكلمة المهداة من قِبَلِ السماء إليك يا عزيزي الإنسان. فهل لا زلتَ تشكُّ بي؟ وهل تراودُكَ أفكارٌ من جهتي؟ فانظر إلى يديَّ ورجليَّ ولا تكنْ غير مؤمن بل مؤمناً. فهل تؤمن بي، وبموتي من أجلك على الصليب، وبقيامتي؟ إنَّ أفضل ما يمكن أن تفعله هو أن تمنحني قلبَك هدية وهكذا تكونُ قد استفدتَ حقاً من هدية السماء إليك، وتنعَّمت ببشرى الخلاص والإنقاذ الحقيقي الذي يبغيه ربُّ السماء لكلِّ سكانِ الغبراء.

التوقيع: يسوع الذي يحبُّك

المجموعة: 200712