حزيران (يونيو) 2007

سألني صديقي: لماذا لا تعترفون بإنجيل برنابا، ففتح هذا السؤال فرصة للحوار والمُدارسة قلَّبنا فيها صفحات بعض المراجع الإسلامية والمسيحية المتعلقة بالبحث، وانتهى الحوار باتفاقٍ مفادُهُ أن ما يسمّى بإنجيل برنابا كتابٌ سخيفٌ لا يستحق هذا الاسم الجليل. ويُلاحظ أنْ ما زال البعض في الأوساط الشعبية يتحدثون عنه، وكأنه إنجيل حقيقي بالرغم من أنهم لم يقرأوه أو يطّلعوا عليه.

المسمّى بإنجيل برنابا وثيقة مزيَّفة مرفوضة إسلامياً ومسيحياً، فهو يتعارض مع القرآن، وعلماء المسلمين الأجلاء رفضوه، وبطبيعة الحال يتعارض مع المسيحية أيضاً.

 

إن أول ما يلاحظه الباحث في هذا أنه لم يكن ذِكرٌ لهذا الكتاب قبل القرن الخامس عشر للميلاد - أي خلال ألف وخمسمائة سنة بعد موت برنابا، إلى أن جاء أحدهم في القرن الخامس عشر ونَبَشَ القبور، ووضع القلم والأوراق بيد برنابا الذي شبع موتاً وقال له: اكتب لنا إنجيلاً باسمك يعارض إنجيل المسيحيين، فلو كان وجودٌ لما يسمّى بإنجيل برنابا خلال الخمسة عشر قرناً الأولى من التاريخ الميلادي لظهر له حتماً اسمٌ ولو على هامش كتب التاريخ، أو في الأوراق والوثائق العديدة التي تعدّ بعشرات الألوف من المخطوطات المحفوظة اليوم في متاحف العالم. ثمّ لو كان لهذا الكتاب من وجود في التاريخ القديم لما اختلف علماء المسلمين كالطبري، والبيضاوي، وابن كثير، والرازي في شرح وتفسير آخرة المسيح على الأرض، ومن هو الذي صُلب، ذلك لأن المسمّى إنجيل برنابا يوضِّح أن الذي صُلب هو يهوذا الإسخريوطي وليس المسيح، وبينما العلماء الأجلاء المذكورون أشاروا إلى غير ما أشار إليه الكتاب المذكور بدليل عدم وجوده في زمنهم، وإلا لاسترشدوا برأيه واهتدوا بهديه، واتفقوا على رأيٍ واحدٍ بخصوص صلب المسيح وموته.

ثمّ يُلاحَظ أن العلماء المذكورين أشاروا في كتاباتهم القديمة فذكروا بالاسم إنجيل متى وإنجيل مرقس، وإنجيل لوقا، وإنجيل يوحنا، وليس بينهم من أشار من قريب، أو من بعيد إلى ذكر برنابا وإنجيل برنابا. فهذا أيضاً دليل تاريخي بين أدلة كثيرةٍ تؤكد أن هذا الكتاب المزوَّر هو كتابٌ حديثٌ لم يكن له وجود قبل القرن الخامس عشر للميلاد.

وعندما أثير اسم إنجيل برنابا لأول مرة في الأوساط الأوروبية في القرن الخامس عشر للميلاد، بحث العلماء المتخصصون، فوجدوا أن راهباً اسمه "مارينو" كان قد أسلم وتسمّى باسمٍ جديدٍ هو "مصطفى العرندي"، وأنه هو مَنْ ألّف الكتاب وصاغه بطريقة تتماشى مع عقيدته الجديدة، لكنه في جهله، وقع في أخطاءٍ كثيرة كشفت زيف ما سعى إليه. فلا المسلمون قبلوه، ولا المسيحيون ارتضوا به، وحُفظت نسخة منه في مكتبة الفاتيكان كوثيقة شاهدة على الحقيقة. فمارينو قام بما قام به ظناً منه أن كتابَهُ ذاك يُمكن أن يحلّ محل الإنجيل الصحيح المنتشر بين المسيحيين على اختلاف لغاتهم، لكن كتابه أُجهض لسخافته، وفشل في أن يشق طريقه بين الجموع أمام شموخ، ومجد، وجلال إنجيل الله الذي صمد بعزمٍ وثباتٍ قبل وبعد "مارينو" بزمن طويل، وما زال وسيبقى في قمة مجده لأنه ذِكرُ الله، والله له حافظٌ يحميه من عبث العابثين.

أما برنابا، فيمكن أن يصدق عليه القول بحق أنه المتهم البريء، وهو بحق شاهد خالي الذهن من كلّ ما قيل عنه وفيه؛ فهو لم يؤلف كتاباً لا في حياته ولا بعد مماته، إنما اسم الكتاب أُلصق به زوراً بعد وفاته بألف وخمسمائة سنة. وبرنابا هذا يهودي قبرصي آمن بالمسيح في فترة ما بعد صعود المسيح إلى السماء، فهو لم يرَ المسيح بعينيه، ولم يسمع منه كلمة أو تكليفاً بكتابه أي شيء، لكنه سمع عن المسيح وآمن به، وتجنّد لخدمته، وشارك في نشر الدعوة المسيحية في البلدان الأوروبية برفقة بولس رسول المسيح. وها هو سفر أعمال الرسل بين أسفار الإنجيل يشهد في أكثر من موقف عن طيب برنابا، وإيمان برنابا، وغيرته في خدمته للمسيح، ونشر دعوته بين الشعوب الأوروبية.

ومن الملاحظات التي تُذكر في هذا الصدد أن كاتب إنجيل برنابا كان يجهل جغرافية فلسطين وبلدان الشرق، فيقول في الفصل العشرين من كتابه: "وذهب يسوع إلى بحر الجليل ونزل في مركبٍ مسافراً إلى الناصرة. ولما بلغ مدينة الناصرة أذاع النوتية في المدينة كل ما فعله يسوع". وهنا غاب عن ذهن مؤلف الكتاب أن مدينة الناصرة تقع على جبلٍ عالٍ في النصف الشمالي من فلسطين، وهي بعيدة عن البحار وعن الشواطئ بعشرات الكيلومترات.

ومن بين أخطائه الأخرى يقول في الفصل الثالث والستين أنّّ الله طرح يونان في البحر فابتلعته سمكة، وقذفته على مقربة من نينوى! أين نينوى من البحار؟ أم لعلّ في نينوى حيتاناً أو أسماكاً ضخمة تمشي على الأرض بأرجلها كالجمال؟!!

ومن أخطائه أيضاً أنه يقول في الفصل الثالث أن المسيح وُلد في عهد بيلاطس، بينما الحقيقة أن بيلاطس كان قد حكم البلاد من سنة ستٍ وعشرين إلى سنة ثلاثين بعد الميلاد، أي بعد ميلاد المسيح بأكثر من ربع قرن.

ويُورد كتاب برنابا خرافة مضحكة في الفصل الخامس والثلاثين يقول فيها: أنّ الشيطان بصق على كتلة من التراب، فأسرع جبريل ورفع البصاق مع شيء من التراب، فصار للإنسان بسبب ذلك سُرة في بطنه!... أليست هذه سخافة؟ وأنها وحدها كافية بأن تلقي بهذا الكتاب في سلة المهملات؟

وهناك أخطاء خرافية أخرى كثيرة يضيق الوقت لطرحها، ومن بينها ما ورد في الفصل الحادي والخمسين إذ يقول: إن المسيح طلب من الله أن يرحم الشيطان، فاعترض الشيطان رافضاً هذه الوساطة! كلام سخيف لا يستهوي غير الجهال. كتاب خرافي لا يستحق حتى مجرّد الحديث عنه، لولا أن بعضاً من الأصدقاء الأعزاء يتساءلون للتعرّف على الحقيقة.

والآن نأتي إلى ما صرَّح به بعض مشاهير المسلمين، فهذا عباس محمود العقاد، مفكر عربي مسلم، وعلى درجةٍ عاليةٍ من العلم والثقافة، وهو صاحب سلسلة كتب العبقريات المعروفة لدى الكثيرين من محبِّي المطالعة. فماذا قال الأستاذ العقاد في تعليقه على إنجيل برنابا؟

كتب العقاد في صحيفة الأخبار الصادرة في 26/10/1959 يقول: "تتكرر في هذا الكتاب الأخطاء التي لا يجهلها اليهودي المطلع، ولا يقبلها المسيحي المؤمن، ولا يتورّط بها المسلم الفهيم، لما فيها من مناقضةٍ بينه وبين قرآنه".

وكتب الدكتور محمد شفيق غربال في الموسوعة العربية "الميسرة" تحت كلمة برنابا يقول ما يلي: "الكتاب المنسوب إلى برنابا كتاب مزيّف وضعه أوروبي في القرن الخامس عشر، وفي وصفه للوسط السياسي والديني في أيام المسيح أخطاءٌ جسيمة.

قارئي العزيز، لاحظ معي أن كل القضايا المسيحية المُخْتلف عليها مع الغير، أيَّاً كان الغير لا تتحرّج المسيحية من طرحها والنقاش حولها بدون تحفظ أو ارتياب. وها نحن في هذا الإصدار من مجلة صوت الكرازة قد طرحنا موضوع ما يسمّى بإنجيل برنابا، عالمين أن ما نقوله فيه هو عين الحق، وقابل للحوار بكلّ رضىً، ولعلّ موضوع البحث هذا هو من أبسط المواضيع، إذ لا يحتاج إلى كثير من الجهد لإقناع الطرف الآخر بصحة ما نقوله فيه.

المجموعة: 200706