أيار (مايو) 2007

يقول إشعياء: ”اعبروا بالأبواب. هيّئوا طريق الشعب“ (إشعياء 10:62)، ولكن أية أبواب يا تُرى؟ ما هي هذه الأبواب التي يدعونا الرب أن نعبرها؟ لقد كُتب هذا الجزء من سفر إشعياء عندما كان الشعب مسبيّاً في بابل، وحين نقرأ هذه الدعوة من الله: ”اعبروا اعبروا بالأبواب“ لا بد أننا نفكر في مدينتين لكل منهما أبواب: المدينة الأولى هي بابل، والمدينة الثانية هي أورشليم.

 

بابل

المدينة الأولى هي بابل التي أبوابها ضخمة وعالية، عظيمة وقوية. إنها مدينة جميلة، ويسكنها شعب كثير كلهم من الأغنياء والمتعلمين، وشهرتها واسعة، فهي عاصمة العالم في تلك الأيام. لقد سُبي الشعب إلى تلك المدينة. وحين أُخذوا إلى بابل كانوا حزانى في بادئ الأمر. حتى أنهم لم يستطيعوا أن يرنموا ترنيمة الرب في أرض غريبة. كانوا يتوقون للرجوع إلى أورشليم،  ولكن حين استقر بهم المقام، ووُلد جيل جديد في بابل... وحين أنشأ هذا الجيل روابط جديدة من صداقات وعمل وتجارة كاد أن ينسى أورشليم، وأحبّ بابل، وعاش فيها وعاشت هي فيه، وارتبط بأهلها وارتبطوا هم به. وحين يقول الله: ”اعبروا اعبروا بالأبواب“، لعله إذن يدعو هذا الشعب أن يسير خلال أبواب بابل، أن يخرج منها ويعبر أبوابها. أيها الشعب، يا من أحببت بابل، يا من نسيت موطنك الأصلي، الدعوة لك أن تخرج ثانية، اعبر أبواب بابل، اعتزلوا، تقدسوا، ارجعوا.

لعل هذه هي الأبواب التي يقصدها روح الله حين يدعو ذلك الشعب.

أورشليم

وهناك المدينة الثانية أورشليم التي هي أصغر كثيراً من بابل، وأقل كثيراً في الفخامة، والجلال، والعظمة من بابل. أهلها أقل مقدرة وعلماً وغنى من أهل بابل، لكنها موطنهم الأصلي. إنها المدينة التي ارتبط فيها ذلك الشعب بإلههم، ولذلك فهي مدينتهم المحبّبة، ولا يستطيعون أن ينسوها.

ولعل هذه الدعوة: ”اعبروا اعبروا بالأبواب“ تقصد أيضاً أبواب أورشليم. هذه أبواب أورشليم أمامكم، اعبروا أبوابها، ادخلوا إلى داخل أورشليم.

أية أبواب هذه التي يدعونا روح الله أن نعبر بها؟ لعلها أبواب بابل أو لعلها أبواب أورشليم؟ وأغلب الظن أنها أبواب الاثنين: أبواب بابل وأبواب أورشليم في وقت معاً. فالدعوة هي ”اعبروا الأبواب“، اعبروا أبواب بابل لتخرجوا منها، واعبروا أبواب أورشليم لتدخلوا إليها. وبابل وأورشليم ليستا مدينتين في الماضي فقط، بل هما مدينتان في الحاضر أيضاً. وبابل وأورشليم ليستا مدينتين على الخريطة الجغرافية، لكنهما مركزان على الخريطة الروحية للعالم. فبابل لها معناها الروحي، وأورشليم لها معناها الروحي.

اعبروا بالنجاح

بابل اليوم لعلها تشير إلى مدينة الشهرة والنجاح والذات، مدينة السلطان والعلم والعظمة، تشير إلى الذين يعيشون لأنفسهم ولآلهتهم كما كان لبابل آلهة وثنية، هم يعبدون إله النجاح، يعبدون الشهرة واللذّات كإله، يعبدون المال والقوة كإله. هذه هي بابل الحديثة التي يعيش فيها كثيرون منا. فليست بابل مدينة قد انقرضت ومضت، لكنها تشمل بقاعاً واسعة من عالم اليوم.

اعبروا للشركة

وأورشليم اليوم تشير إلى الشركة مع الله... تشير إلى الصلة القوية والرابطة الوطيدة بين المؤمن ومخلصه وإلهه... تشير إلى هيكل الرب الذي فيه نعبد الله والذي نذكر أن حجابه قد انشقّ حين مات الرب يسوع على الصليب، والذي نقدّم عليه أنفسنا ذبيحة حية مقدسة مرضية. أورشليم هي أن ندخل إلى أعماق الإيمان، والشركة، والطاعة، وهي أن نتعمّق في النموّ ومعرفة الله.

الله يدعونا أن نترك بابل ونهجرها وألاّ نشاكل هذا الدهر. كفانا الحياة التي عشناها والتي لا تفترق في كثير أو قليل عن حياة أهل العالم. نعيش بغير تدقيق، بغير شركة، بغير إيمان. نعيش لأنفسنا وبأنفسنا. نعيش عابدين ذواتنا. والله يدعونا: اتركوا بابل هذه، اعتزلوا، اخرجوا، كفاكم هذه المعيشة في الكورة البعيدة. وهي دعوة ليست إجابتها أو تلبيتها سهلة. فالأجيال التي نشأت في بابل أحبّتها، وأحبّت لذّاتها وطريقة معيشتها وشعبها، ولم يكن من السهل أبداً على هذه الأجيال الجديدة أن تترك بابل وترجع لأورشليم، حتى أننا وجدنا قلة قليلة هي التي رجعت بعد أن فُتحت الأبواب. وكما كانت تلبية هذه الدعوة صعبة على الشعب قديماً، فإنها ما زالت صعبة وعسيرة علينا اليوم. حين يدعونا الله أن نترك الكورة البعيدة وأن نرجع إلى الوطن الأصلي فإننا نجد الدعوة صعبة التنفيذ، لأننا نحب العالم ونعيش فيه، نحب المادة، لأننا لا نريد أن نُقهر في هذا العالم، لكن نريد أن نتمكن بالقوة، والمال، والثروة، والشهرة. أحببنا هذا العالم بلذّاته وشروره، بآثامه عشنا في العالم وعاش العالم فينا وأصبحنا من العالم.

هوذا صوت الله يأتينا واضحاً: ”اعبروا بالأبواب“، هذه الأبواب التي دخلتموها وأُغلقت عليكم قد آن الأوان أن تخرجوا منها. فصوت الله هو أحكم الأصوات حتى وإن كنا لا نعرف لماذا! حتى وإن كنا لا نرى أن أورشليم أفضل من بابل بالنسبة لنا، دعونا نستجيب لنداء الله، لأن الله محبة، ويريد أن يخرجنا من وسط العالم وينجينا من الهلاك.

حنين إلى الأصل

ثم هناك صوت الحنين إلى الوطن الأصلي. إن أورشليم في قلب ذلك الشعب ذكريات لا يمكن أن تنسى، والحنين إليها لا يمكن أن ينطفئ. لعل الحنين إلى الوطن يدركه من ترك وطنه باختياره أو كان مُجبراً. الحنين إلى أورشليم ينادينا أن نخرج من بابل... إن وطننا الأصلي هو في السماويات حيث نجلس مع المسيح. ومهما تغرّبنا بعيداً، ومهما رفلنا بالنجاح والثروة بعيداً عن وطننا الأصلي، فالحنين إلى الوطن الأصلي ينادينا أن نخرج من بابل.

نحن لسنا من أهل هذا العالم، نحن أبناء الله، وخُلقنا على صورة الله، وافتدانا الله وصرنا أبناء له. لمن نحن إذاً؟ لسنا لبابل، بل للذي مات من أجلنا وقام. دعونا نتذكّر من نحن؟ ولمن نحن؟ ما هو وطننا الأصلي؟ وحين نذكر هذا الوطن الأصلي ممزوجاً بذكريات الألم والتجارب، فإننا نشعر بحنين يدعونا لأن نخرج من بابل. هناك صوت الله، هناك صوت الحنين إلى الوطن، هناك صوت الواجب والضمير الذي يعلن لنا بوضوح أن ليس هذا هو مكاننا، وينادينا: اعبروا بأبواب بابل لتخرجوا منها.

إن الله لا يدعونا فقط إلى جانب سلبي، أن نتوب ونخرج من أرض العبودية، والكورة البعيدة، ثم نبقى في البرية. إن إلهنا بعد أن ينادينا أن نخرج  بأبواب بابل ينادينا بأن ندخل أبواب أورشليم. الذي أخرجنا من أرض العبودية يدخلنا إلى أرض كنعان. إنه لا يكتفي أن يخرجنا من وسط العالم لكنه يرفعنا إلى السماويات. اعبروا بأبواب أورشليم، ادخلوا إلى أعماق الشركة مع الله، لنتعرّف كل يوم على المزيد من الله، وعن محبته، وعنايته، ومعاملاته معنا. لنتعمّق أكثر في الصلاة، وفي دراسة كلمة الله، حتى تكون هذه الكلمة أيضاً سراجاً لنا في الطريق.

طريقا العبور

هناك سبل كثيرة تبلّغنا إلى أبواب أورشليم فنعبرها، منهما طريق الإيمان وطريق الطاعة. طريقان يؤديان بنا إلى أبواب أورشليم فتُفتح أمامنا وندخلها. بالإيمان ندخل أورشليم، وبالطاعة نوغل فيها.

طريق الإيمان: بالإيمان نستطيع أن نقتحمها ونمتلك ممتلكاتنا، أن نأخذ ما يريد الله لنا أن نأخذه. إن الله قد أعدّ لنا في المسيح ما لا يخطر لنا على بال، ونحن نبقى على هامش الحياة المسيحية، نلتقط الفتات الساقط إلينا، مع أن لنا أن نكون مع المسيح على المائدة! هو يدعونا اليوم أننا بالإيمان نتقدم لممتلكاتنا، بالإيمان ندخل إلى كنعان، وبالإيمان نعيش بالشركة مع الله.

طريق الطاعة: ثم هناك طريق الطاعة. كثيراً ما تكون هذه الطاعة صعبة، وتكون أوامر الله لنا غير مفهومة. لكن علينا - حتى وإن كنا لا نفهم - أن نطيع وسنفهم فيما بعد.

طريق قوة الله وروح الله: ثم هناك طريق قوة الله... طريق روح الله. حين نمتلئ بروحه نستطيع أن نقتحم حصوناً لم نكن نستطيع أن نقتحمها... نستطيع بروح الله أن ندخل أورشليم.

إن نحن ذكرنا دائماً أن مخلصنا آت، فإننا سوف نستطيع أن نحتقر بابل، وأن نوغل إلى أعماق أورشليم. إنها دعوة الله: ”اعبروا بالأبواب“.

دعونا نترك ماضينا ونعبر بابل التي عشنا فيها في الماضي، وندخل أبواب أورشليم التي فيها نتمتع بالحياة المنتصرة وبممتلكاتنا في المسيح.

المجموعة: 200705