أيلول (سبتمبر) 2007

حين نتحدّث عن خروج إبراهيم من أور الكلدانيين إلى كنعان، غالباً ما نتصوّر أن فكرة الهجرة إلى كنعان نشأت أولاً عند إبراهيم، ولكنها في الحقيقة نشأت عند تارح أبي إبراهيم. يقول الكتاب: ”وأخذ تارح أبرام ابنه، ولوطاً بن هاران ابن ابنه، وساراي كنته امرأة أبرام ابنه، وخرجوا معاً من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى ارض كنعان“ (تكوين 31:11).

 

كثيراً ما ننسب إلى إبراهيم فضلاً هو في الواقع من حق أبيه، وهذا لا يُنقص من شأن إبراهيم، لأنه كان بإمكانه أن يرفض. ولعل إبراهيم كان له ذات الفكر، فخرج بصحبة أبيه.

إبراهيم شخصية جبارة من الشخصيات التي عاشت على الأرض. ولست أعتقد أن تارح كان في إمكانه أن ينجز ما أنجزه ابنه إبراهيم، فتارح ليس على المستوى الذي كان عليه ابنه من بعده، ولكن أقول أيضاً أنه وإن كان تارح لم يكن يستطيع أن يعمل ما عمله إبراهيم، إلا أن إبراهيم ما كان يعمل ما عمله لولا تارح. فلولا أن تارح أعطى قوة دافعة لإبراهيم، وأخذه من أور الكلدانيين وخرج به متجهاً إلى كنعان - لولا هذه الدفعة الأولى - لعلّ إبراهيم ما كان يستطيع أن يعمل ما عمله.

دعونا نتذكر مسؤوليتنا نحو أبنائنا، نحو إعطائهم الدفعة الأولى والدفعات المتكررة، ليخرجوا من أور الكلدانيين حتى يصلوا إلى كنعان.

دافع ديني

أحب أن أتصوّر أن تارح ترك أور الكلدانيين متجهاً إلى كنعان بسبب وازع ديني. فأور كانت منطقة غنية، وعلى درجة عظيمة من المدنية. كانت أرضاً زراعية تنتج ثمراً كثيراً، ولم يكن سهلاً على إنسان يعيش في تلك المنطقة أن يهجرها إلى مكان لا يعرف عنه أي شيء. لكن أور هذه التي اتصفت بالغنى والمدنية - اتصفت أيضاً بالشر والإثم - كانت عبادة الوثن فيها تمارس  مصحوبة بأشنع العادات. ولعل تارح أدرك أن هذا الجو يخنقه ويخنق عائلته، وأنه ليس الجو الذي يمكن أن يتنشق فيه الإنسان الشركة السليمة مع الله، فترك أور الكلدانيين بكل ما فيها واتجه إلى كنعان. ترك وطنه وممتلكاته وبعض عائلته واتجه إلى أرض جديدة، غريبة عنه. ولكنه اتخذ هذا القرار لأنه أحسّ أنه لا يمكن أن يكون في شركة مع الرب في ذلك المكان.

ترى، هل نحن على استعداد أن نترك كل ما يمكن أن يعطّل شركتنا مع الرب؟! أن نترك غنى أور ومدنيتها، ثمارها وأهلها - إن كانت هذه تعطّل شركتنا مع إلهنا - ونتّجه إلى مكان قد لا يعطينا ما تعطينا إياه أور، ولكنه يعطينا شركة مع الآب؟!

دافع عائلي

ويخيّل إليّ أيضاً أن الدافع لم يكن فقط دافعاً دينياً لكنه أيضاً كان دافعاً عائلياً. فلم يكن تارح يفكر في نفسه بقدر ما كان يفكر في أولاده وأولاد أخيه [أي إبراهيم ولوط] لأنه إن كان يفكر في نفسه فقط لعله ما كان يترك أور، لأنه وصل إلى درجة من القوة الروحية تجعله يستطيع أن يقف ضد التيار الجارف في أور. لكنه كان يخشى على أولاده وعائلته، ولذلك كان تفكيره ليس فقط تفكيراً روحياً من جهة نفسه، لكنه كان تفكيراً روحياً من جهة عائلته. كان مستقبل أولاده عاملاً مقرراً في اتخاذ هذا القرار، في اتجاهه إلى كنعان. لقد خرج أبرام في صحبة تارح لأن تارح فكر في أولاده وفكر في الشركة مع ربه.

موت تارح

يقول الكتاب: ”فخرجوا معاً من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض كنعان، فأتوا إلى حاران وأقاموا هناك... ومات تارح في حاران“. ولست أدري هل مات تارح في حاران لأنه اكتفى بمسيرته من أور إلى حاران وقال: لست بحاجة إلى أن أواصل المسيرة إلى كنعان. حين يقول: ”أتوا إلى حاران وأقاموا هناك، ثم مات تارح في حاران“. السؤال هو: هل كان تارح في وقفته في حاران يتوقف إلى حين، لكن كنعان لا تزال هدفاً له؟ وأنه كان مصراً على الذهاب بعد هذه الوقفة القصيرة، ثم فاجأه الموت وهو في حاران ولا يزال يتشوق إلى كنعان؟ أم أن تارح اكتفى بوصوله إلى حاران؟

هل اكتفى تارح بحاران لكي يبقى فيها، أم أنه أقام فيها فترة لكي يستمد قوة بها يواصل المسيرة إلى كنعان؟ لست أدري... والكتاب لا يعلن لنا ترجيحاً لرأي على آخر؟ لذلك نستطيع أن نتأمل في الافتراضين.

الافتراض الأول: إن تارح مات في حاران بعد أن أقام فيها وقد اكتفى بوصوله إليها، وكان قد نسي كنعان ولم يعد يهدف إلى الوصول إليها!

الافتراض الثاني: إن تارح مات في حاران، وإن كانت كنعان لا تزال في قلبه، وكان يتمنى لو أنه استطاع أن يصل إليها.

ولنتأمل في الافتراض الأول: خرج تارح من أور الكلدانيين وهدفه كنعان، لكنه في الطريق توقف في حاران واكتفى بذلك. إن كان الأمر كذلك فتارح مثال لمن يبدأ بناء ولا يستطيع أن يكمل، يبدأ بداءة حسنة لكنه لا يستطيع أن يكمل المسيرة. وفي ذلك يمثل تارح كثيرين من الذين بدأوا ولكنهم لم يكمِّلوا. ولقد عانى المسيح في حياته على الأرض من شخصيات سلكت ذات المسلك الذي سلكه تارح. كثيرون اقتربوا إليه يستمعون إلى تعاليمه، وأُعجبوا بمعجزاته، لكنه لما تحدث عن الخبز النازل من السماء، وعن الجسد المكسور إذا بهم يتركونه ويبتعدون. اكتفوا بأنهم اقتربوا منه لكنهم لم يكملوا المسيرة معه. كان يهوذا واحداً من الذين جذبهم المسيح إليه، وانتخبه واحداً من تلاميذه، وعاش مع المسيح ثلاثة أعوام كاملة. بدأ بداءة عظيمة لكنه في النهاية خان السيد وباعه بثلاثين من الفضة.

ويحدثنا بولس الرسول عن ديماس. أشار إليه بولس ثلاث مرات في رسائله. الإشارة الأولى في رسالته إلى فليمون وفيها يقول: ”ديماس ولوقا العاملان معي“.

والإشارة الثانية في رسالته إلى كولوسي حيث يقول: ”لوقا الطبيب الحبيب وديماس يسلمان عليكم“.

الإشارة الثالثة في رسالته الثانية إلى تيموثاوس إذ يقول: ”ديماس قد تركني إذ أحبّ العالم الحاضر“.

ثلاث إشارات لشخص واحد من شخص واحد، هي بمثابة ثلاث نقط يمكننا بها أن نرسم خطاً بيانياً يمثل حياة ديماس.

النقطة الأولى: ”ديماس ولوقا العاملان معي“. ذكر بولس الرسول اسم ديماس قبل لوقا، ووصف الاثنين بأنهما عاملان معه. ونحن نعرف مكانة لوقا في قلب بولس، فكان رفيقه وطبيبه وشريكه في الخدمة، لكن بولس أحس أن ديماس بدأ بداءة أحسن من لوقا فذكره قبل لوقا.

الإشارة الثانية نجد بولس الرسول يقول: ”لوقا الطبيب الحبيب وديماس يسلمان عليكم“. لوقا الذي ذُكر بعد ديماس في الإشارة الأولى، يُذكر في الثانية أولاً، ويوصف بالطبيب الحبيب، أما ديماس فلم تعطَ له صفة. ولعل بولس رأى بثاقب خبرته الروحية أن ديماس بدأ ينحدر إلى أسفل.

وفي النهاية كتب بولس: ”ديماس قد تركني إذ أحبّ العالم الحاضر، لوقا وحده معي“. ديماس بدأ بداءة حسنة لكنه لم يستطع أن يكمّل. ويذكر الرسول السبب قائلاً: ”أحب العالم الحاضر“.

هناك أسباب كثيرة تجعل الإنسان يخرج من أور ويتوقف في حاران، منها محبة العالم الحاضر، شهوة الجسد، شهوة العيون، تعظّم المعيشة، إغراءات هذا العالم الذي يجذبنا بملذاته وما يقدمه لنا من وعود كاذبة. ويتوقّف ديماس أمام هذه الأضواء ويترك بولس وينسى ”كنعان“ ويترك الخدمة ليحب العالم الحاضر بشهواته.

متاعب الحياة المسيحية

هناك سبب آخر هو متاعب الحياة المسيحية. قال المسيح: ”في العالم سيكون لكم ضيق“، ”ما أضيق الباب الذي يؤدي إلى الحياة“.

لم يخدع المسيح إنساناً، ولم يقل إطلاقاً أن الحياة معه ستكون أسهل من الحياة بعيداً عنه، بل قال إنها ستكون أفضل. لكن كثيرين ممن يخرجون من أور يتعثرون في الطريق... المشاكل كثيرة، والخدمة متعبة، والسهام حادة. ولعل مرقس توقف في مسيرته مع بولس وبرنابا في الرحلة التبشيرية الأولى بسبب هذه الصعوبات، ولكن مرقس عاد فاستردّ ثقته وإيمانه وتابع المسيرة.

بُعد عن الشركة

على أن من أهم الأسباب التي تجعلنا نتوقّف في حاران ولا نكمل المسيرة إلى كنعان هو ابتعادنا عن الشركة مع المسيح. لعلنا لا نقصد أن نتوقّف طول الوقت. دعوني أذكّركم أن الابن الأصغر بعد أن ترك بيت أبيه لم يصل بين ليلة وضحاها إلى الكورة البعيدة، والمجاعة، والذل الذي وصل إليه - لم تكن هذه النقلة فجائية - لعلّه قضى وقتاً طيباً في بادئ الأمر تمتّع فيها بأمواله إلى حين. لم ينتقل إلى المجاعة مباشرة. وهذه هي المأساة. إن ارتداد البعض عن المسيح يأتي تدريجياً، لدرجة أن المرء لا يحسّ بهذا الارتداد.

حين نتوقّف في حاران رغبة منا في أن نلقي نظرة على العالم - حتى وإن كنا لا ننوي أن نبقى في حاران - فهذه من بين الأسباب التي تشدنا إلى حاران وتبقينا فيها وتحرمنا من الوصول إلى كنعان.

والمأساة في قوله: ”ومات تارح في حاران“. وهو الخطر الذي يحدق بكل إنسان يبقى في حاران، حتى وإن كان ينوي تركها إلى غيرها. هو معرض لخطر الموت في حاران.

ولكن نعطي تارح حقه، نقول أنه سار معظم المسافة إلى كنعان. لو نظرنا إلى الخريطة لوجدنا أن أور الكلدانيين تبعد عن حاران مسافة 400-500 ميل. أي أن تارح سار مسافة طويلة جداً، وكاد أن يصل إلى كنعان، لكنه لم يدخلها، لأنه توقّف في حاران. كان قريباً جداً، ولكن في الوقت نفسه كان بعيداً. تماماً كما قال المسيح لذلك الإنسان: ”لست بعيداً عن ملكوت الله“. لكن لا يكفي أن يكون المرء قريباً من الملكوت، ينبغي أن يكون الإنسان داخل الملكوت، لأن البعد عنه خطوات يتساوى مع البعد عن الملكوت أميالاً. وموت تارح في حاران كموته في أور، ما دام لم يدخل إلى كنعان.

دعونا نحذر من أن نبدأ بداءة حسنة ونتعثّر في الطريق. يا ليتنا نبدأ حسناً ونسير مع المسيح إلى كنعان.

افتراض آخر

ثم نأتي إلى الافتراض الثاني: لماذا لم يصل تارح إلى كنعان؟ لعل الشيخوخة أدركته. لعل المرض لحق به. لعل الضعف أجبره على أن يستريح في حاران، لكنه لم يكن في نيته أن يبقى في حاران، بل يكمل المسيرة إلى كنعان، إلا أن الموت أدركه، ولكن الشوق إلى كنعان لم يمت فيه. هذا هو الاحتمال الأصوب والأصح في هذه الحالة.

ولو أن الأمر كذلك، فإن تارح يمثل كل مسيحي، بآماله العريضة في الحياة الروحية، لكنه لا يستطيع أن يحققها في هذه الحياة القصيرة. يمثل تارح من يريد أن يصل إلى قامة ملء المسيح، لكنه لا يستطيع ما دام هو في الجسد. لن يستطيع إنسان أن يحقق كل رغباته وأهدافه في الحياة، إلا ذاك الذي قال: ”قد أُكمل“. ولكن إن كنا لا نحقق هذه الآمال، فإنه ما دام الشوق إلى كنعان في قلوبنا، فإن الله يعتبرنا قد دخلنا كنعان - حتى لو متنا في حاران!

أراد داود أن يحقق أملاً في حياته وهو أن يبني هيكلاً للرب، وجمع الذهب والفضة والأخشاب لكي يبنيه ولكن داود مات ولم يرَ هذا الهيكل، غير أن الرب قال له أنه كان جميلاً أن يضع بيت الرب في قلبه. مات داود وهو يتمنى أن يبني هذا الهيكل، ولكن لم يمت هذا الهيكل فيه.

سؤال أضعه أمامنا: أين نحن؟ في أور، أم في حاران، أم في كنعان؟ وكنعان ليست مدينة نتوقعها بعد الموت، ونهر الأردن ليس رمزاً للموت. كنعان من حقنا ومن واجبنا أن ندخلها ونحن على هذه الأرض، وأن نعبر نهر الأردن ونكرس أنفسنا لله.

دعونا نسأل أنفسنا إن كنا لا زلنا في أور، فهوذا الآن وقت أن نقرر بأن نخرج من أور، بأن نتوب عن خطايانا، ونسلم حياتنا للمسيح ليخرجنا من أرض العبودية ومن الموت إلى الحرية والحياة، وينقلنا من الظلمة إلى النور... بأن نريده ونتبعه ونسلمه الحياة ليتحكم فيها.

وإن كنا قد خرجنا من أور ولكننا لا زلنا نتجوّل في حاران، ولعل الكثير من المترددين في الكنيسة من سكان حاران، يحبون أن يسمعوا عن المسيح ومعجزاته، لكنهم لم يكرسوا الحياة بعد للمسيح.. إن كنا كذلك فعلينا أن نكرس حياتنا للمسيح، وأن نسير المسيرة كلها معه. إن كنا توقفنا في حاران فدعونا نفك خيامنا ونتابع المسيرة إلى كنعان.. لندخل أرضاً تفيض لبناً وعسلاً ولنحيا معه وبه وفيه.

المجموعة: 200709