أيلول (سبتمبر) 2007

قلنا في حديثٍ سابق أن أحداث العنف والإرهاب التي تتحدث عنها الشعوب في هذه الأيام ليست جديدة على عالمنا، ولو أنها تستخدم اليوم وسائل مبتكرة لم يكن لها وجود في أيام القدم، فالعنف والإرهاب له جذور قديمة متأصلة في السلوك البشري منذ بدء تاريخ الإنسان.

 

ويُلاحظ أنْ في زحمة انشغال الناس في الحديث عن الإرهاب يُفَوِّتُ على البعض أن يتوقفوا لحظةً ليتساءلوا عن أصل الإرهاب، ومن أين جاء، ومتى وكيف نبتت جذور الإرهاب في أعماق النفس البشرية التي خلقها الله في أحسن تكوين حين خلق آدم، إذ حاشا لله أن يخلق آدمياً ويغرس فيه طبعاً وحشياً كهذا الذي نراه ونسمع عنه.

فمن أين ومتى تسلل هذا الغضب الجارف إلى نفوسٍ خلقها الله لكي تزرع ولا تقلع، ولكي تبني ولا تهدم، ولكي تعطي ولا تؤذي، ولكي تمارس الخير وترفض الشرّ وتكون بركة لا لعنة في الأرض؟!

وفي سياق حديثنا هذا قد نتساءل لماذا فعل الإرهابي هذا الفعل أو ذاك؟ فقد يكون لديه قضية اختار أن يُدافع عنها بأسلوبٍ أقل ما يقال عنه أنه غير إنساني ومدانٌ من الله ومن الناس، ومرفوض من كلّ الشرائع الدينية طالما هو يستهدف المدنيين الأبرياء!!!

ونتساءل من جديد: من غرس جرثومة الإرهاب في طبيعة البشر حتى أن أحد ولدَي آدم قام على أخيه وقتله ثم تخفَّى وأنكر صلته بالحدث؟! فهل يخلق الله الإنسان بهذه العصبية الوحشية، أم أنّ شيئاً ما حصل فغيَّر في الطبيعة الطيِّبة التي خلقه اللهُ فيها  فأفسد عليه مشاعره النبيلة وغرس فيه ميولاً ودوافع وحشية؟! فلكي نصل إلى الحقيقة لا بدّ لنا أن نعود إلى كتابٍ قديمٍ ما زال يَحتفظ ببريق جماله وقدسيته، وما نقصده هنا هو الكتاب المقدس.

فالكتاب المقدس بدءاً بسفر التكوين هو أول من كشف لنا عن صورة ما جرى للإنسان من حقائق قديمة توضّح الإجابة عن تساؤل ردّدناه أكثر من مرة في هذا البحث، فالكتاب المقدس هو أقدم وأقدسكتاب في الوجود، وهو مَنْ رصد تحركات الإنسان وسلوكياته من بدء الخليقة بتسلسلٍ واضح دقيق، وكشف لنا عن أسرار الكون، وماذا خلق الله في اليوم الأول، وماذا خلق في اليوم الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس حيث اكتملت الخليقة في ستة أيام، وفي اليوم السادس ذاك خلق الله الإنسان بعد أن هيّأ له كلّ متطلبات الحياة الكريمة لينعم ويعيش بسلام وأمان. فهو سبحانه أعزَّ الإنسانَ وميّزه عن سائر مخلوقاته وتوّجه على رأس خليقته. ويصرّح الوحي هناك أن الله خلق الإنسان على صورته ومثاله... وهذا تعبيرٌ يسمو عن مستوى فهم البعض ممن يتمسكون بحرفية اللفظ، بينما ما يعنيه الوحي هناك أن الله وضع في الإنسان قبساً من صفاته:

فالله خالدٌ لا يفنى ومنح الخلود للإنسان من دون الحيوان.

والله خالقٌ مبدعٌ وأعطى الإنسان أن يكون مبدعاً خلاقاً (وليس خالقاً).

الله حكيمٌ فهيمٌ مقتدرٌ، وغرس في الإنسان قبساً من الحكمة والفهم والقدرة في الإبداع استطاع بها أن يطوّر نفسه وأسلوب حياته في تعاملاته مع عناصر الطبيعة فأخضعها لخدمته.

والله عادلٌ ووضع في النفس البشرية بذور العدل.

والله محبٌ رحيمٌ وميّز الإنسان بالمحبة والرحمة.

الله ناطق يعبّر عما يريده بالكلمة في مخاطبة من يريد، وأعطى الإنسان أن يكون مخلوقاً ناطقاً دون الحيوان.

وأخيراًوليس آخراً، الله قدوسٌ طاهرٌ وخلق الإنسان طاهراً نقياً خالياً من العيوب، ولكن في سقطة آدم بتأثير غواية الشيطان تشوّهت كل هذه الصفات، فالصورة الجميلة التي خلق عليها الإنسان شوّهتها الخطية، فطرد آدم أبو البشرية من الجنة، وكان من ثمار السقوط أن استوطن الإثم في كيان الإنسان، فصار الكذب، والحقد، والكراهية، والكبرياء، والحسد بديلاً للحالة التي خُلق فيها، وصار الميل للحرب والنزوع للاقتتال من طبيعة الإنسان، وصار الرياء والنفاق المغلف بثوب التقوى والتديّن بالمحسنات المظهرية.ومن بؤرة الحفرة التي سقط فيها آدم وأورثها لذريته، نما العنف، والإرهاب والاغتصاب، ونبتت الجريمة فيه بأشكالها من زنىً، وفسقٍ، وسرقةٍ، وقتلٍ، وظلمٍ، وكذبٍ، وتمويه للحقائق، وشهادةِ زور، وإلى كلّ مفردات قاموس الشر، فتعثَّرت علاقة الإنسان بربّه، كما تعثّرت علاقة الإنسان مع نفسه ومع مجتمعه، وحتى مع أبناء بيته وأقاربه وبني جنسه، وها قصة ابنَي آدم قايين وهابيل لمِن أقدم الأمثلة على ما أشرنا إليه، والشيء نفسه ما زال يتكرر بين الناس في كلّ يوم، فبعد جريمة قايين في قتله لأخيه هابيل توالت سلاسل مفزعة من المظالم والجرائم، وصار البعض يتفنَّن في عمل الشرّ، ومع ذلك يحاول إعطاء الإثم غطاءاً دينياً فيُحلّلُ ويحرّم على مزاجه، ويُقْحمُ الدّين في ما يعمله ظلماً وبهتاناً، والدّين منه براء، إذ كيف يُصَدَّقُ بأنّ الدّين يعطي شرعيةً لقتل الأبرياء الذين لا ذنب لهم.وكثرت المدارس التي بعضها يحلل الجريمة وآخر يحرّم، وتباينت المواقف بين من خرجوا ومن لم يخرجوا عن نص الشريعة، وهذه عبارات لفظية يستخدمها من يريد بغير حق.

نخلصُ إلى القول، إنّ أساس العنف سواء كان في البيت، أو الشارع، أو المدينة، أو بين الشعوب، هو علامة سقوطٍ في الطبيعة البشرية، فالإنسان آثمٌ يحتاجُ للمصالحة مع الله بتوبةٍ فعليةٍ وليس بمظاهر التقوى التي تمارس تقليدياً بطقوسٍ وشعائر دينية رتيبة وعبادةٍ مظهريةٍ!!!

ونعود للتساؤل من جديد: من هو القادر على صنع معجزة التغيير للقلب البشري الملوّث بالخطية؟! هو الواحد الأوحد الوحيد القادر أن يستأصلروح العداء والبغضاء، وأصل المرارة من قلب الإنسان. إنه المسيح، فهذا هو الهدف الذي جاء المسيح لأجله، فهو جاء برسالة مميزة ليحرِّر الإنسان من عدوٍّ كامنٍ في داخله ينخر كالسوسة في ضميره لتشويهه وليصوّر له الشّرّ خيراً، والخير شرّاَ، ويعكّر أجواءه وأجواء الدنيا من حوله.وفي إحدى نداءات المسيح للعالم كله قال: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأناأريحكم احملوا نيري عليكم وتعلموا مني لأني وديعٌ ومتواضع القلبفتجدوا راحة لنفوسكم لأن نيري هيّن وحملي خفيف“.

كلماتٌ فيها سلطان لا يجرؤ أحد مهما سما في القدرة أو التقوى أن ينادي العالم بمثلها، لأن المسيح هو الطبيب الوحيد القادر أن يدخل القلب ويطهّره من الحقد، والضغائن، ومن لوثة الكراهية، والعداء، وروح الانتقام، وعدم التسامح، وأن يغرس في القلب الحبّ والسلام ودوافع الإنسانية!...

وقبل أن أختم الحديث في هذا أقول:

هل سمعت قارئي الكريم عن إرهابي خطر غير مسيحيٍّ وكيف تحوّل الرجل وآمن بالمسيح وتغير من صورة غرابٍ شرسٍ إلى حمامةٍ وديعةٍ، ومن وحشٍ كاسرٍ إلى حملٍ وديعٍ!! سأتحدث عن هذا كنموذج من نماذج عديدة ما زال المسيح يصنعها في تغيير القلوب لأنه مسيح حي قادر على كلّ شيء يعرف كيف ينزع مرارة الإثم من القلب ليزرع فيه الحب والخير وبذار السلام وطهارة القلب.

المجموعة: 200709