آب (أغسطس) 2008

فقد الشيخ ابنه الأكبر شاباًَ في عنفوان الرجولة. ثم فقد ابنه الثاني بعد بضع سنوات وفي نفس السن تقريباً. وإزاء هول الخطب أتاه المعزون متهيّبين، لا تسعفهم عبارات العزاء التقليدية أو غير التقليدية.

ولكن كم كانت دهشتهم أن يسمعوا الشيخ التقي، وهو أحد المشتغلين بالقانون يحدّثهم قائلاً أنه لا يوجد أصلاً، عقد أو اتفاق مع المولى أن يبقي أبناءه، أو أي إنسان آخر، على قيد الحياة إلى سن معين! ولذا فلا وجه للاعتراض أو التذمّر عليه تعالى، فيما سمح به، لأنه لم يفاجئنا بنقض اتفاق مبرم، أي يباغتنا بالإخلال بالتزام قائم!

 

نعم، لماذا التذمّر ما دام الله لم يعدنا إطلاقاً بطرق ليّنة أو أحلام وردية؟! على النقيض، فقد صارحنا على لسان داود: ”كثيرة هي بلايا الصديق“. لذا لا ينبغي أن نتزعزع حين تصيبنا، لأنها أمر طبيعي. نحن موضوعون لها، على حد تعبير الرسول بولس.

وماذا يُنتظر من عالم وُضع في الشرير سوى الألم؟!!! ولكن في وسط آلامنا يليق بنا أن نشكر لا أن نتذمّر! نعم، نشكر الله على وعوده المطمئنة، وحضوره الدائم ”كل الأيام إلى انقضاء الدهر“، وقوته المخلّصة، وتعزياته المتفاضلة.

وعندما تشتدّ بك الضيقات وتعتصرك الآلام، اذكر أن الإله المحب لا يمكن أن يسمح بها لذاته. إنه يقصد، في محبته ورحمته، أن يحقق بها هدفاً مباركاً. إنها مجرد حلقة في برنامجه الحكيم، أو فصل مؤثر في قصة حياتك. اصبر، في هدوء، إلى نهاية القصة لتعرف مغزاها، وستدرك حينئذ كم كان الله رحيماً في كل أدوارها!

لو أتيح لقطعة الذهب أن تتكلم من وسط النيران لأعلنت سخطها الصارخ على صائغ المجوهرات: ”كفى... انتشلني من هذه النيران... لقد تألمت بما فيه الكفاية“.

ولكنه يتركها في النار حتى تصل لدرجة النقاوة المطلوبة. ونحن أيضاً، نتعرّض للتذمّر عندما تطول آلام التجربة، ونقول لله إننا نلنا قدراً كافياً منها، غير مدركين أن العبرة ليست بمقدار ما أصبنا من ألم، ولكن أن يتحقّق الهدف من ورائها وينضج الثمر.

ومما يستثير فيك التذمّر وأنت تجتاز مرارة الضيقة، أن تلاحظ أن الله لا يعامل الآخرين كما يعاملك أنت. ولكن ما يدعوك للتذمّر ينبغي أن يكون باعثاً على الشكر. أليس من الرحمة ودليلاً على المحبة أن يفرّق الآب بحكمته، في معاملة أبنائه، حتى ينشئ كلاً منهم التنشئة الصالحة، بما يتناسب مع شخصيته وظروفه؟!

ليتك تدرك أن تذمّرك يعني الاستعلاء على الله وعدم ثقتك به، فضلاً عن أنه ينفّر الآخرين منك، ويعرّضك لانصراف المقرّبين وانقضاض الخصوم عليك.

والتذمّر - في نفس الوقت - عملية سلبية تملأك مرارة وتهدم كيانك من الداخل. حاول بالأحرى أن تقوم بعمل إيجابي. حاول أن تجد حلاً لمشكلتك أو سبيلاً لتخفيف آلامك. حاول أن تتعلّم شيئاً مفيداً من ضيقتك، وأن تكتشف الجوانب المشرقة في ظلام تجربتك.

يا رب، أمسك بيميني وانتشلني من بؤرة التذمّر السوداء، وأعطني صبراً وتسليماً، وعلّمني الشكر الذي ينتزع مني كل تذمّر، حتى أصل في النهاية إلى هذا الاختبار المجيد:

”احسبوه كل فرح يا إخوتي حينما تقعون في تجارب متنوّعة“.

المجموعة: 200808