آب (أغسطس) 2008

"عندما يشرب المرء قليلا من الخمر ينسى همومه وأحزانه ويشعر بالغبطة والسرور ولا يعود يفكر بمشاكله وقضاياه التي تقضّ عليه مضجعه". هكذا قالت لي صديقتي ذات يوم. ولمَّا أبديتُ تعجُّبي من كلامها تابعت تقول:

”أنا لا أعني السُّكر، بل قليل من الخمر يجعل النفس ترتاح. فعندما أعود من العمل مرهقةً متعبة، أسكبُ لنفسي كأساً لكي أنسى عناء النهار ومشاغل الحياة. وهنا بالذات تذكَّرت كلام شاعر الخمرة والمجون أبي نواس حين قال: وداوني بالتي كانت هي الداء.

 

ومن خلال اطِّلاعي على دراسة علمية أجراها  باحثون في طوكيو وأدرجتْها إحدى الصحف العربية على صفحاتها تحت عنوان: الخمر تطيل الحزن،  تبيَّن أنها قد أبطلتْ كلام صديقتي تلك كما أبطلت معتقد شاعر قال: إن الخمر لا تنزلُ الأحزانُ ساحتَها. فلقد ثبتَ من خلال هذه الدراسة العلمية أن الخمر تطيل الأحزان بدلَ أن تُزيلها. وأوضح الفريق الذي يقوده البروفسور في العلوم الصيدلانية نوريو ماتسوكي أن الإيثانول الذي تحويه المشروبات الكحولية لا يساهم في النسيان كما يقول الاعتقاد الشائع. لكنَّه على العكس يحفظُ الذكريات مطبوعة في الذاكرة. وتوصّل الباحثون إلى هذا الاستنتاج عبرَ إجراءِ تجارب متعددة في المختبر على الجرذان. وقالت الدراسة إذا طبّقنا النتائجَ على البشر فذلك يعني أنَّ الذكريات السيئة التي نودّ التخلُّصَ منها ستدوم فترةً أطول إذا شربنا الكحول حتى لو أدّى الأمر إلى غبطةٍ آنيَّة. ونصح ماتسوكي: لنسيانِ أمرٍ سلبيٍّ ينبغي محوُه بأمر إيجابي بأسرع وقت ممكن وعدم الاقتراب من الكحول. ونُشرت نتائجُ هذه الدراسة في مجلة نوروسايكو فارماكولوجي العلمية الأمريكية.

أجل، ففي كلِّ عصرٍ يسعى الإنسان دائماً إلى ابتداعِ حلولٍ لمشاكله وقضاياه، لهمومه وأحزانه، عساه يخرج من هذه الدوَّامة التي يعيش فيها. ولكنه ويا للأسف سرعانَ ما يجد نفسه قد غاص في مستنقعٍ من الوحل. وكلَّما حاول جاهداً الخروج منه وجد نفسه وقد ازداد غرقاً. أوَليست هذه هي قصة ممثِّلي هوليوود الذين نسمع عنهم الكثير؟ وماذا عن كبار المشاهير والمغنين؟ ألا تطالعُنا الصحف والمجلات والتلفزيونات والفضائيات كل يوم عن أخبار فلان أو فلانة ممَّن قضَوا نتيجةَ لإدمانهم على الخمر؟ هؤلاء الذين وقعوا في حبالِ المسكر وصاروا عبيداً لهذا السائلِ الرقراق؟

تحضرني للحال قصةُ أحد المرنمين ويدعى دوغلاس أولمانDouglas Olman  الذي وصف مرةً حاله بكلِّ دقة في ترنيمة تحكي اختباره مع عائلته وبالذات مع ابنته الصغيرة إذ قال: كانت ليلة مميَّزة في حياتي عدتُ فيها إلى بيتي باكراً وعلى غير عادتي. وما أن فتحتُ الباب حتى ركضتْ صغيرتي واختبأتْ وراءه لكي لا أراها. فلقد اعتادت أن تختبئ مني هناك، خوفاً من صوتي الأجشّ، وهرباً من رائحة الخمرة الكريهة، وحفاظا على نفسها من الَّلطم والضرب. حزّ فيَّ هذا المنظرُ جداً في تلك الليلة. فركضتُ إليها وانحنيتُ أمامها وقلت لها والدموع تفيضُ من عيني: تعالي يا حبيبتي فأنتِ الآن لديكِ أبٌ جديد يختلف عن السابق، أبٌ نادم عن كل الألم والعذاب اللذين سبَّبَتهما الخمرة له ولكِ يا حبيبتي وللعائلة ككل. تعالي يا صغيرتي فأنتِ حياتي وعمري. تعجَّبت طفلتي من هذا الكلام اللطيف والمليء بالحنان الذي لم تعهدْه مني من قبل،  وركضتْ للحال وألقت بنفسها عليَّ، فغمرْتُها بكلِّ جوارحي وضمَمتُها إلى صدري ورحت أبكي. ”نعم يا ابنتي“ قلت لها، ”شكراً للرب الذي لمسَ حياتي بلمسةٍ شافية نشلَتني من مرضي المستعصي هذا. شكراً وألفَ شكر لمَن فكَّ أسري وحلَّ قيودي وأغلالي من الخطية التي دمرتْ حياتي. شكراً للمصلوب لأنهُ مات عني وخلَّصني. تعالي يا ابنتي ولا تخافي بعد اليوم لأنَّ لكِ الآن أباً جديداً مختلفاً عن الأب السابق. لكن ماذا حصل حتى صرتُ أباً جديدا؟ كتب يعبر عن ذلك وقال:  

”في أحد الأيام كان فخّاري يسير في الطريق فرأى وعاء مكسوراً وقد تعرَّض للمطر والرياح العاتية. فأسرع الفخاري وأخذه بين يديه بكل حنو ورقة، وصنع منه من جديد وعاءً آخر. لقد حوّله إلى وعاء جميل أنيق خالٍ من أي عيب. نعم، لقد كنت أنا هو هذا الوعاء المكسور والمحطَّم،  فصرخت قائلاً: يا رب أنت هو الفخاري وأنا هو هذا الوعاء الخزفي المهشَّم الذي فقد قيمته. أرجوك، عدْ واصنعني من جديد. وهذا ما حصل بالضبط يا بنيّتي، ولهذا أنا الآن مخلوق جديد“. 

نعم يا قارئي، لم تثبتْ تلك الدراسة العلمية أن الخمر تطيل الحزن فحسب، بل لقد كتب النبي والملك سليمان الحكيم ومنذ آلاف السنين عن هذا الموضوع الهام فقال وبوحي من روح الله القدوس هذه الكلمات المعبرة: "لمن الويل؟ لمن الشقاوة؟ لمن المخاصمات؟ لمن الكرب، لمن الجروح بلا سبب؟ لمن ازمهرارُ العينين؟ للذين يدمنون الخمر، الذين يدخلون في طلب الشراب الممزوج. لا تنظر إلى الخمر إذا احمرَّت حين تُظهر حبابَها في الكأس وساغت مرقرقة. في الآخِر تلسعُ كالحية وتلدغ كالأفعوان“ (أمثال 29:23-33). ”الخمر مستهزئة. المسكر عجَّاج، ومن يترنّح بهما فليس بحكيم“ (أمثال 1:20). فهل تراك تتبع نصيحة الكتاب المقدس الذي سجَّل تاريخ علاقة الإنسان المخلوق مع الله خالقه ومنذ بداية البشرية؟ لقد عرف الله معاناة هذا الإنسان الذي خلقه إذ صار تحت سلطان الخطية، وعبوديتها المريرة. لهذا دوَّن له نصائحَ عليه أن يتبعها وتحذيرات عليه أن يأخذها بعين الاعتبار لأنه العارف الأوحد بجبلته. وبيَّن له بأنه لن يجد حلاً بعيداً عنه تعالى، لا ولن يصل بنفسه إلى نسيان همومه وأحزانه بحلوله البشرية التي لا تزيده إلا همًّا وألماً. فهل تُرى يسمع الإنسان ويعترف بأنه في أمس الحاجة إلى مَن ينتشله من فساده وسقوطه وانحداره هذا؟

هل من حكيم؟

الحكيم، الحكيم هو الذي يرجع إلى رشده ويستمع إلى كلمة الله المقدسة التي وحدها تنقّي القلب، وتغيِّر الوجدان، وتطهِّر النفس، وتبرئ الإنسان من معاصيه وآثامه، وتطلقه حرّاً من قيود وأغلال الشيطان. هتف الرسول بولس في القديم وقال: "ويحي أنا الإنسان الشقي! من ينقذني من جسد هذا الموت؟ أشكر الله بيسوع المسيح ربنا!" (رومية 24:7).

والآن، إذا كنت حقاً تتوق إلى التحرير بالفعل من قيود الخطية، فلا تلجأ إلى حلول بشرية تحاول عن طريقها أن تتخلَّص من أحزانك. لأنك إذا فعلت ذلك فستكون كذاك الشاعر الذي قال: وداوني بالتي كانت هي الداء. قف هنيهةً يا صديقي وفكِّر، ويا ليتك تصرخ وتقول:

أيها الفخاري الأعظم

أنا كالخزف بين يديك

عد واصنعني وعاء آخر

كما يحسن في عينيك

المجموعة: 200808