شباط (فبراير) 2008

لا يُقاس الإيمان بالعقل أو العلم ولا بالفسلفة أو المنطق لأن هذه المقاييس والمعايير تتعامل مع المنظور، والملموس، والعلوم، والمحدود، والزمان، والمكان، والظروف، والأحوال.

 

أما الإيمان، وإن كان لا يتعارض مع هذه المقاييس والمعايير، فإنه يتخطى كل هذه الحدود ويعلو فوقها لأنه يتعامل مع اللامنظور واللامعلوم واللامحدود، لأنه ”الثقة بما يُرجى والإيقان بأمور لا تُرى“ (عبرانيين 1:11). فالإيمان يستخدم قدراتنا وإمكانياتنا البشرية لكنه يعلو فوقها، ولا تستطيع أن تحد فاعليته أو تعطل عمله. قال الرب يسوع المسيح: ”الحق أقول لكم... إن قلتم أيضاً لهذا الجبل: انتقل وانطرح في البحر فيكون. وكل ما تطلبونه في الصلاة مؤمنين تنالونه“ (متى 21:21-22). في كتابه ”الإيمان الذي به نحيا“ Faith to Live By، قال دِرك برنس Derek Prince: ”يرفعنا الإيمان فوق عالم قدراتنا الخاصة ويجعل إمكانيات الله متاحة لنا“.

يعلن الكتاب المقدس هذه الحقيقة في كل صفحاته من خلال حياة رجال ونساء الله الذين عاشوا حقاً حياة الإيمان. وأروع سجل عن هؤلاء هو رسالة العبرانيين الأصحاح الحادي عشر. فبعد أن سجل لنا عينات عن سحابة الشهود الأمناء قال كاتب العبرانيين: ”وماذا أقول أيضاً؟ لأنه يعوزني الوقت إن أخبرت عن جدعون، وباراق، وشمشون، ويفتاح، وداود، وصموئيل، والأنبياء، الذين بالإيمان قهروا ممالك، صنعوا براً، نالوا مواعيد، سدوا أفواه أسود، أطفأوا قوة النار، نجوا من حدّ السيف، تقوّوا من ضعف، صاروا أشداء في الحرب، هزموا جيوش غرباء“ (عبرانيين 33:11-34). بعد هذه المقدمة - التي أرى لا بد منها عندما نتحدّث عن الإيمان - دعونا نتأمل معاً في نوعية من الإيمان المُعاش؛ الإيمان الذي يضع الله أولاً، وفي المقدمة في نواحي الحياة المتنوعة. وقد اخترت في هذه المرة إبراهيم رجل الإيمان - الذي لُقِّب بأبي الإيمان، وخليل الله - لكي نتبيَّن كيف يعمل الإيمان الحي في المؤمن، فيتخلى عن ذاته ويضع علاقاته الأسرية وغير الأسرية جانباً في سبيل أن يضع الله في مقدمة حياته قبل كل شيء، فيكون الله متقدماً في كل شيء.

لقد دعا الله إبراهيم مرتين:

في المرة الأولى قال له: ”اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك... فذهب أبرام كما قال له الرب“ (تكوين 1:12 و4).

وفي المرة الثانية قال له الرب: ”خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق واذهب إلى أرض المريّا، وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك. فبكّر إبراهيم صباحاً وشدّ على حماره، وأخذ اثنين من غلمانه معه، وإسحاق ابنه، وشقق حطباً لمحرقة، وقام وذهب إلى الموضع الذي قال له الله“
(تكوين 2:22-3).

ومن استجابة إبراهيم لهاتين الدعوتين يتّضح لنا أن إبراهيم أعطى الله الأولوية وجعله متقدماً في كل شيء في حياته، فأعطاه:

أولاً: المحبة الأولى

إنني أستشفّ من دعوة الله لإبراهيم سؤالين هامين:

السؤال الأول، وكأن الرب يقول له:

هل تحبني يا أبرام أكثر من الأرض، والعشيرة، والأهل، وبيت أبيك؟ وإن كان الأمر كذلك يا أبرام، اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك، فأعلم أنك تحبني!

وهكذا فعل أبرام، إذ بإيمانه أعلن محبته للرب من كل القلب.

والسؤال الثاني:

هل تحبني يا إبراهيم أكثر من إسحاق ابنك وحيدك الذي تحبه، وأكثر من سارة زوجتك، بل وأكثر من نفسك؟

أجاب إبراهيم لا بالكلام بل بالإيمان العامل بالمحبة العملية، وقال للرب: نعم يا رب، إني أحبك أكثر من إسحق حبيبي وسارة زوجتي المحبوبة، وأكثر من نفسي. فأنت الأول في حياتي، وها أنا أبرهن عملياً على محبتي لك يا رب، فها هو إسحق على المذبح.

في لوقا 57:9-62، نقرأ عن ثلاثة أشخاص كانوا يرغبون أن يتبعوا يسوع، لكن قلوبهم وأولوياتهم كانت متعلقة بأشياء أخرى وأشخاص آخرين.

الأول الذي لم يعمل حساب النفقة، قال ليسوع: ”يا سيد، أتبعك أينما تمضي. فقال له يسوع: للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار، وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه“. من الواضح أن هذا الرجل لم يقبل كلام المسيح وبالتالي لم يتبعه.

والثاني قال ليسوع: ”يا سيد، ائذن لي أن أمضي أولاً وأدفن أبي“.

والثالث قال ليسوع: ”أتبعك يا سيد، ولكن ائذن لي أولاً أن أودّع الذين في بيتي. فقال له يسوع: ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله“.

أحبائي، إن حياة الإيمان الحقيقي تملأ قلوبنا بالمحبة العملية والخالصة للرب فتدفعنا بقوة أن نضع الله أولاً في حياتنا قبل أي شيء، وقبل أي شخص مهما كانت مكانته في حياتنا. وهنا نرى الوصيتين العظيمتين مطبقتين عملياً: ”تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قدرتك، ومن كل فكرك، وقريبك مثل نفسك“ (لوقا 27:10).

ثانياً: الطاعة الفورية

لم يتوانَ إبراهيم لحظة واحدة في تنفيذ دعوة الله له والخطة المعلنة له. ففي الدعوة الأولى، يعلن الوحي: ”فذهب أبرام كما قال له الرب“ (تكوين 4:12). وفي الدعوة الثانية يقول الكتاب: ”فبكّر إبراهيم صباحاً وشدّ على حماره، وأخذ اثنين من غلمانه معه، وإسحاق ابنه، وشقق حطباً لمحرقة. وقام وذهب إلى الموضع الذي قال له الله“. ثم نقرأ أيضاً عندما وصل إلى الموضع: ”ربط إسحاق ابنه ووضعه على المذبح فوق الحطب“ (تكوين 3:22 و9).

وفي كلتا المرتين لم يتساءل أو يتحاور إبراهيم مع الله... لم يتوانَ ولم يتململ أو يتمهّل في تنفيذ دعوة الرب له، بل كان كالجندي الذي تلقى الأمر فأسرع لتنفيذه في الحال دون تأخير أو تأجيل أو معارضة. وهنا نلاحظ أن طاعة إبراهيم كانت:

¨ طاعة فورية وكاملة في إتمام كل ما أمره به الرب دون إنقاص. فترك وطنه وعشيرته وأرضه، ووضع ابنه على المذبح. لم يطلب بدائل من الله أو اختيارات أخرى. لم يطلب تعديل الأمور لصعوبة تنفيذها، بل خضع تماماً لإرادة الله وخطته له.

¨ وكانت طاعة إبراهيم طاعة واعية ومقتنعة بالمطلوب منه، لذلك أعدّ وجهّز كل ما يلزم للذبيحة. لقد أخذ كل الأدوات اللازمة معه حتى لا يلتمس لنفسه عذراً يمنعه من تقديم إسحاق فيلقي اللوم على الرب لكي يبرر نفسه متحججاً بأنه لم يجد سكيناً أو حطباً. وليس هذا فقط بل تجنّب كل المعوّقات والمعطلات التي قد تمنعه من  تقديم الذبيحة، إذ أمر الغلامين أن يمكثا بعيداً حتى يرجعا خوفاً من أن يمنعاه من إتمام المهمة، أو يعطلانه، أو حتى يشككانه سواء بالامتناع أو بالقوة.

¨ وكانت طاعته صابرة غير يائسة، فالله لم يعلن له المكان إلا بعد ثلاثة أيام. فلنتخيّل معاً ما راودته من أفكار في مسيرته في الطريق الطويل، والحرب التي شنها عليه إبليس، لكنه لم يفشل ولم ييأس.

¨ وكانت أيضاً طاعته واثقة كل الثقة في الرب ”إذ حسب أن الله قادر على الإقامة من الأموات أيضاً“ (عبرانيين 19:11). وهذا واضح من إجابته عن سؤال إسحاق: ”أين الخروف للمحرقة؟ فقال إبراهيم: الله يرى له الخروف للمحرقة يا ابني“ (تكوين 7:22-8)، إذ كان واثقاً ومؤمناً من تدبير الله للذبيحة البديلة.

الإيمان الحي يقول مع بولس: ”ماذا تريد يا رب أن أفعل؟“، فيضع الله دائماً في المقدمة قبل الابن المحبوب، وقبل الزوجة أو الزوج، وقبل الأمهات والآباء.، وقبل النفس، وقبل أغلى شيء في الحياة، خاضعاً وطائعاً في كل شيء.

ثالثاً: العبادة الحقيقية

يقول الكتاب بأن أول عمل قام به إبراهيم بعد أن لبى دعوة الرب له، وبعد أن ترك وطنه وأهله وبيت أبيه هو أنه بنى مذبحاً للرب: ”فبنى هناك مذبحاً للرب ودعا باسم الرب“ (تكوين 7:12-8). لقد ترك العبادات الوثنية والتزم بعبادة الرب الذي ظهر له، واستمر هكذا يتعبّد للرب.

الإيمان الحي يفجّر في دواخلنا أشواقاً مقدسة لعبادة الله وتمجيد اسمه، والشركة معه قبل أي شيء في حياتنا، فنصرخ مع داود قائلين: ”يا الله إلهي أنت. إليك أبكّر. عطشت إليك نفسي، يشتاق إليك جسدي في أرض ناشفة ويابسة بلا ماء“ (مزمور 1:63).

هل فينا الأشواق الحقيقية لعبادة الله، فنعطيه الأولوية لوقت العبادة، والاجتماعات، والخلوة الشخصية معه، أم أن العالم والمشغوليات الكثيرة أبعدتنا عن إقامة مذبح الرب في حياتنا؟

الإيمان يضع الله أولاً وفي المقدمة في حياتنا، عندئذ نطيعه أولاً طاعة فورية كاملة، طاعة واعية ملتزمة وواثقة، وطاعة محتملة صابرة. وأيضاً نحبه أولاً قبل كل شيء وأكثر من أي شيء أو أي شخص... نحبه من كل القلب والفكر والإرادة... نحبه لا بالكلام بل بالعمل. وكل هذا يدفعنا ويضع في قلوبنا الأشواق لعبادته أولاً والتلذذ بمحضره والتمتّع بشخصه. فهل لنا هذا النوع من الإيمان الذي يضع الله أولاً في مقدمة حياتنا، وفي مقدمة أولوياتنا؟

المجموعة: 200802