كانون الثاني (يناير) 2008

يطلّ علينا عام جديد فنرحّب به ونقبله حنيفاً مكرّماً رغم عدم معرفتنا بما يحمله إلينا من آمال واعدة أو آلام وافدة. فنحن ننظر إليه مقبلاً نظرة تفاؤل  تفضي ببعضنا إلى الفرح والاستبشار وبالبعض الآخر إلى إطلاق الأعيرة النارية! بينما تنظر قلة إلى هذا الزائر المتطفّل نظرة التفحّص وتستقبله بالريبة والتوجّس، لعلمهم أن البدايات تستتبع نهايات هم في غنى عن التفكّر بها واستملاء غوامضها. ومعظم الناس تسرّهم البدايات ولكنهم لا يعبأون بالنهايات...! وبين هذه وتلك تكمن كبار المجريات وعظام المؤثرات وتتكوّن بدايات لا نهاية لها!!

 

¨  يقول الكتاب المقدس: ”نهاية أمر خير من بدايته“ (جامعة 8:7أ). ويقول أيضاً: ”إن وَلَدَ إنسانٌ مئةً، وعاش سنين كثيرة حتى تصير أيام سنيه كثيرة، ولم تشبع نفسه من الخير، وليس له أيضاً دفنٌ، فأقول: إن السقط خير منه“ (جامعة 3:6). وهذان العددان من حكمة سليمان التي أعطاه الله أن ينطق بها. ويعتبرها الكثيرون إحدى فلسفات الحياة التي ظهرت هنا وهناك كأجزاء من الصورة الحقيقية التي تمثّل الوجود على وجه البسيطة، إذ تتشعّب الآراء بين الملل والنحل حول هذا البحث الذي يصوّر حياة الإنسان ووجوده فلا نجد له صوراً متطابقة بين القديم والحديث وحتى في العصر الواحد والمكان الواحد أيضاً!

وأهم ما في هذا البحث هو علاقة الناس ووجودهم بالآلهة وسلطانها، وارتباط وجود المخلوق بخالق، أمر يفرض نفسه بقوة. إذ لا نستطيع أن نجد له بديلاً في مشهد الحياة التي تعيشها جميع المخلوقات حيث تقف في النهاية عاجزة عن تحديد مصيرها لأنه في يد خالقها وينطق بجلال وقدرة مكوّنها. ولكن بني البشر، بكبرياء قلوبهم، أرادوا أن يكتشفوا لأنفسهم ما خفي عنها من أمور هذا الوجود فتقوّلوا فيه حسبما يشاءون!!

¨  فالأبيقوريون قالوا: إن الآلهة بعيدون عن الناس لا يعبأون بما يجري لهم وما على الإنسان في هذه الحالة إلا أن يبحث عن اللذة وهو يجدها في البعد عن الأدناس والأشياء التي تعقّد حياته أو تجلب له الألم والشقاء.

¨   والرواقيون اعتقدوا بألوهية الكائنات وأعلنوا بأن العمل يكون خيراً للإنسان بمقدار ما هو لائق ومنسجم مع طبيعته البشرية وتمسكوا بما سمّوه الخير الأفضل الذي هو العيش بحسب الفطرة كما تسوّغ للإنسان نفسه متشبهاً بالطبيعة فتصبح حياته موافقة لإرادة الآلهة! والأفلاطونية قريبة من هذا المنطق وتنظر إلى مدينة فاضلة تضم الجميع.

¨   وهناك فلسفات كثيرة لا حصر لها متضاربة ومتصارعة فيما بينها وكل منها تدّعي أنها عرفت حقيقة الوجود.

¨   فهناك نظرية تصارع البقاء وبقاء الأفضل التي قادها هوبز ولارشفدكولد فشبهوا شريعة حياة الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله بشريعة البحر أو شريعة الغاب.

   وهناك الفلسفة الوصولية التي يؤمن أصحابها بمقولة إن الغاية تبرّر الوسيلة. فجميع الوسائل في نظرهم مشروعة إذا أدّت إلى خير فاعلها ولا علاقة لله أو لوصاياه بغاية الوجود.

¨   وهناك الفلسفة المادية التي قامت على نظرية النشوء والارتقاء لداروين وهي تستبعد وجود الله من المشهد وتقول بتطوّر المادة وما زال الكثيرون يعتبرونها صحيحة رغم أن صاحبها قال في أواخر أيامه: ”إنها كانت مجرد نظرية تبحث عن الحلقة المفقودة، ولم أكن أظن أنها ستسري في عقول الناس كما تسري النار في الهشيم“.

¨   وهناك الشيوعية التي أنكرت وجود الله وقامت على نظرية مادية اقتصادية لكارل ماركس، حيث ادّعى أنها تستطيع أن تُشيع العدالة بين البشر وبالتالي الرخاء والسعادة التي هي غاية النفس البشرية بمقولة: ”لكلٍ حسب حاجته ومن كلِّ حسب طاقته“. وقد انهارت أيضاً وهي آيلة إلى التلاشي.

¨   وتطالعنا في هذه الأيام فلسفة جديدة يمكن أن ندعوها ”بالأممية“، وتحاول أن تروّج إلى توحيد الأمم والشعوب في منظومة واحدة تضمن الأمن وتوفر الحرية وتشيع السلام، وبدأت طلائعها في عصبة الأمم ثم في هيئة الأمم المتحدة التي ثبت أيضاً فشلها في كثير من هذه المواضيع. لكن الكتاب يقول صراحة: ”لأنه حينما يقولون: سلام وأمان حينئذ يفاجئهم هلاك بغتة، كالمخاض للحبلى، فلا ينجون“ (1تسالونيكي 3:5). ويقول أيضاً: ”ليس سلام قال إلهي للأشرار“ (إشعياء 21:57).

فتلك النظريات التي سبق عرضها جميعها من إنتاج فكر الإنسان وتستند على الحكمة البشرية القاصرة، وقد أصبحت أو ستصبح جميعها أثراً من الماضي لا وجود له إلا في كتب التاريخ فيخبو مفعولها بعد أن يظهر عقم نشوئها وفساد تطبيقها.

أما الحكمة التي تعلنها كلمة الله الحية فقد بقيت وستبقى قوية نضرة حتى آخر وجود للإنسان على وجه هذه البسيطة؛ لأنها قبس من حكمة المبدع العظيم الذي خلق الكون وأثبت له نواميسه وهو وحده العالِم بما يناسب الخليقة ويقود لخيرها.

¨   ونحن في بداية أخرى من بدايات السنين نتطلع من بين ثنايا مطلعها لعلنا نتبين ما سيسرنا أو يضيرنا فلا نجد بداً من العودة إلى كلمات الحكمة ”في يوم الخير كن بخير، وفي يوم الشر اعتبر. إن الله جعل هذا مع ذاك لكيلا يجد الإنسان شيئاً بعده“ (جامعة 14:7)، ”بدء الحكمة مخافة الرب، ومعرفة القدوس فهم“ (أمثال 10:9). فلنبدأ عامنا الجديد مع الحكمة الإلهية ننهج نهج الذين وجدوا طريقها في ذاك ”المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم“ (كولوسي 3:2).، والذي قال: ”أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي“ (يوحنا 6:14).

فأهم ما في الأمر هو بداية النهاية. فحياتنا الأبدية تبدأ بخطوة الإيمان الحق بالإله الحق، والموت الأبدي يبدأ بخطوة العزوف والإهمال الكامل لذلك الصوت الذي  يتكلم في أعماقنا ”يا ابني أعطني قلبك“. فلكل بداية نهاية، وهكذا تبدأ حياتنا بالجسد ثم تنتهي، وبين هذه البداية وتلك النهاية يُتّخذ القرار ويتقرر المصير. فالنهاية الحقيقية تتبين قبل انتهاء حياة الإنسان وفوات الفرصة، لأن الحياة قصيرة ولا تساوي شيئاً نسبة إلى قياس الأبدية التي تبدؤها ونحن ما نزال نعيش هنا.

¨   إن بعض الناس لا يؤمنون بالأبدية ويقولون أن حياتنا تبدأ وتنتهي هنا في الأرض، لكن كلمة الله تقول أن الله ”صنع الكل حسناً في وقته، وأيضاً جعل الأبدية في قلبهم، التي بلاها لا يدرك الإنسان العمل الذي يعمله الله من البداية إلى النهاية“ (جامعة 11:3).

ومن هو الإنسان الجبلة والطين الذي يستطيع أن يناقض قول الله أو يدّعي شيئاً بخلافه وهو عاجز تجاه جسده وصحته الجسدية أو العقلية وذاهب إلى النهاية المحتومة لكل حيّ؟ إنه سيقف أمام دينونة الله العادلة بكل إذعان وخضوع ”لأن الله يحضر كل عمل إلى الدينونة، على كل خفي، إن كان خيراً أو شراً“ (جامعة 14:12).

¨  تبدأ السنون ثم تنصرم ذاهبة إلى غير رجعة. ونحن على نفس الحالة المحزنة من الرفض والعناد، أو التراخي والإهمال، أو العبودية للشهوات والملذات الأرضية الفانية نسير على غير هدى ونعيش حياة البعد عن الله المحب فنسرع الخطى نحو الدينونة الرهيبة والموت الأبدي.

يتساءل النبي إرميا باستغراب قائلاً: ”مضى الحصاد، انتهى الصيف، ونحن لم نخلص!... أليس بلسان في جلعاد، أم ليس هناك طبيب؟ فلماذا لم تُعصب بنت شعبي؟“ (إرميا 20:8 و22). ثم يبكي بمرارة صائحاً: ”يا ليت رأسي ماء وعينيّ ينبوع دموع، فأبكي نهاراً وليلاً قتلى بنت شعبي“ (إرميا 1:9). فهلاك الإنسان في أبدية العذاب يستحق الندب والبكاء الكثير، ذلك على خلاف ما يفعله البعض في استقبالهم العام الجديد بالفرح المزيّف والسكر والعربدة... غير عابئين بما هو آت عليهم بعد انتهاء حياة الجسد.

دعوة الرب موجهة إلينا جميعاً لكي نصحو لأنفسنا فننظر إلى ما خلّفناه في العام المنصرم ونطلب وجه الرب من جديد ونبدأ معه بداية جديدة، لا بداية سنة تنقضي بعد ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً بل بداية لا نهاية لها برفقة الرب تدوم إلى ما بعد الموت وحتى الأبد. يقول الرب: ”الحق الحق أقول لكم: إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة“ (يوحنا 24:5). ويوضح الرسول بولس سهولة القبول بقوله بالروح القدس: ”لأنك إن اعترفت بفمك بالرب يسوع، وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات، خلصت. لأن القلب يؤمَن به للبر، والفم يُعترف به للخلاص“ (رومية 9:10-10).

فلنبدأ عامنا الجديد لخيرنا الأبدي ولا نؤجل.

المجموعة: 200801