حزيران (يونيو) 2008

تكلمنا في المرة الماضية عن محبة الله للإنسان كما هي موضّحة في يوحنا 16:3، وأيضاً في رومية 8:5 ”ولكن الله بيّن محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا“، كما هناك آيات أخرى كثيرة. والآن سنتكلم عن علاقة محبة الله لنا بمحبتنا نحن للآخرين. وبما أن هذا المجال واسع جداً سوف نقتصر على ما جاء في إنجيل يوحنا بهذا الخصوص.

 

من المعروف أنه في يوحنا 1-12 تكلم المسيح وتعامل مع أناس كثيرين كأفراد أو جماهير.

 فنراه في عرس في قانا الجليل في يوحنا 2، ومع نيقوديموس في يوحنا 3، كما مع المرأة السامرية ومع كثيرين من أهل السامرة في يوحنا 4، ونراه يجيب عن اعتراضات اليهود وعلى عدم إيمانهم في يوحنا 5. في يوحنا 6 أطعم الآلاف من الذين أتوا ليسمعوا كلامه. وهكذا إلى أن نراه ضيف الشرف في عشاء في بيت عنيا. وبعد ذلك تحدث مع الجموع وقال لهم: ”ما دام لكم النور آمنوا بالنور لتصيروا أبناء النور. تكلم يسوع بهذا ثم مضى واختفى عنهم“ (يوحنا 36:12). أما من يوحنا 13 إلى القبض عليه في بستان جثسيماني في يوحنا 18، فقد كان المسيح يخاطب تلاميذه فقط، وذلك ليعدّهم لحقيقة فراقه لهم. فقال لهم: ”لا تضطرب قلوبكم... أنا أمضي لأعدّ لكم مكاناً... ثم آتي أيضاً وآخذكم إليّ حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً“
(يوحنا 1:14-3). ووعدهم أن يرسل لهم المعزي الآخر الروح القدس الذي سيعلمهم كل شيء ويذكرهم بكل ما قاله المسيح لهم (انظر 16:14، و17، و26)، كما علمهم كيف يكونون مثمرين وذلك بالثبات فيه كالغصن في الكرمة (1:15-8)، وأخبرهم أن العالم قد يبغضهم كما أبغضه (18:15-19)، بل يأتي وقت فيه يظن كل من يقتلهم أنه يقدم خدمة لله (1:16 و2). ولكن الوصية العظمى التي قالها، بل كررها مراراً في هذا الجزء من إنجيل يوحنا فهي المتعلقة بالمحبة فقال لهم: ”وصية جديدة أنا أعطيكم: أن تحبوا بعضكم بعضاً. كما أحببتكم أنا تحبون أنتم أيضاً بعضكم بعضاً“
(يوحنا 34:13). لماذا يسميها وصية جديدة؟ الجواب هو لأنها محبة من نوع جديد، ومصدرها والدافع لها هو مصدر ودافع جديد، وهو محبة المسيح. أن نحب بعضنا بعضاً كما أحبنا المسيح. وهي جديدة أيضاً لأنها تختلف عن الفكرة التي كانت شائعة وهي أن تحب من يحبك وتبغض من يبغضك (متى 43:5). هي جديدة وتبقى جديدة على مدى الزمن، لا تقل قيمتها ولا يصيبها ضعف أو نقصان، لأن المثال الذي تقتفيه هو محبة المسيح لنا. وكرر المسيح هذه الوصية في يوحنا 12:15-13 ”هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم. ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه“. لاحظ أنه لا يقول هذه إحدى وصاياي. بل هذه هي وصيتي. والدافع لتتميم هذه الوصية هو محبته لنا، كما أن محبته هي المثال الذي يضعه أمامنا. فبقدر ما نتأمل في محبة المسيح تزداد محبتنا للآخرين. وهناك عبارتان قالهما المسيح بخصوص محبته لنا تستحقان التفكير العميق: الأولى قالها لتلاميذه، والثانية قالها للآب. وإذ نقرأ هذه الآيات لا بد أن ندرك أننا واقفون على أرض مقدسة. وعلينا أن نقرأها بكل إجلال واحترام، بل بتعبّد وخشوع.

العبارة الأولى في يوحنا 9:15 ”كما أحبني الآب كذلك أحببتكم أنا. اثبتوا في محبتي“.

هل نستطيع حقاً أن نستوعب عمق هذه العبارة؟ أليس لذلك كان الرسول بولس يصلي من أجل المؤمنين ليعرفوا هذه المحبة الفائقة المعرفة؟ ليتنا نفكر طويلاً فيما قاله المسيح ”كما أحبني الآب كذلك أحببتكم أنا“!

والعبارة الثانية في يوحنا 23:17، في صلاة المسيح من أجل تلاميذه ومن أجلنا نحن الذين نؤمن به بواسطة شهادتهم. قال مخلصنا المجيد للآب: ”أنا فيهم وأنت فيّ ليكونوا مكمّلين إلى واحد، وليعلم العالم أنك أرسلتني، وأحببتهم كما أحببتني“. أترى أيها القارئ العزيز ما تتضمنه هذه الآيات؟

كما أحبّ الآب ابنه الحبيب الوحيد القدوس الذي كان دائماً يعمل مشيئة الآب، هكذا أحبنا المسيح (يوحنا 9:15).

وكما أحب الآب ابنه الحبيب يسوع المسيح هكذا أحبنا الآب (يوحنا 23:17). تأمل في هذا، اشرب من هذا المنهل، من هذا النهر الغزير المتدفّق. لترتوِ نفسك بهذه المحبة العجيبة الفائقة المعرفة. ماذا نقول لهذا؟ كم يجب أن تحصرنا هذه المحبة؟! ولكن لا ننسى أنه كما أحبنا هكذا يريد منا أن نحب بعضنا بعضاَ.

وهناك ملاحظة أخرى يجدر بنا أن نتأملها: في حديث المسيح الوداعي مع تلاميذه. أراد المسيح لهم ثلاثة أشياء: السلام والفرح والمحبة، لا بل أقول: أراد لهم سلامه هو، ومحبته هو، وفرحه هو، فقال:

”سلاماً أترك لكم. سلامي أعطيكم“ (يوحنا 27:14).

”إن حفظتم وصاياي تثبتون في محبتي“ (يوحنا 10:15).

”كلّمتكم بهذا لكي يثبت فرحي فيكم“ (يوحنا 11:15).

سلامه، محبته، فرحه! والسلام والفرح هما من ثمار المحبة إذ لا يمكن أن يكون هناك سلام وفرح بدون محبة. البيت الذي يتمتّع بالمحبة يتمتّع بالسلام والفرح. الكنيسة التي تتصف بالمحبة يسودها السلام والفرح. فخير لي أن أكون بين جماعة من المؤمنين يحبون بعضهم بعضاً حتى إن لم تكن عندهم مواهب بارزة من أن أكون في أي وسط آخر مهما كان عظيماً ولكنه مجرّد من المحبة. فلا فائدة من العلم بدون محبة. ”العلم ينفخ ولكن المحبة تبني“ (1كورنثوس 1:8). قال أخ تقيّ يحب الرب، وكان رجلاً بسيطاً من قرى صعيد مصر: ”إن الإخوة المؤمنين مثل القصب [أي قصب السكر]، حتى الأعوج حلو“. هذه هي روح المحبة الحقيقية، فالمحبة التي يعلمنا إياها معلمنا المجيد يسوع المسيح هي محبة لا تتوقّف على إعجابنا بمن نحبهم، بل هي محبة قلبية بالرغم من العيوب والنقائص التي فينا جميعاً. هذه هي المحبة التي تفرّح قلب الرب. لأنها في هذا تشبه محبة الرب لنا. فنحن إذ كنا ”بالطبيعة أبناء الغضب كالباقين أيضاً، الله الذي هو غنيّ في الرحمة، من أجل محبته الكثيرة التي أحبنا بها، ونحن أموات بالخطايا أحيانا مع المسيح“  (أفسس 3:2-5).

ولنتذكّر أن المحبة التي يوصينا بها الرب ليست فقط نحو المؤمنين الآخرين، بل هو يعلمنا أن الوصية الأولى والعظمى هي أن ”تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك. هذه هي الوصية الأولى. وثانية مثلها هي: تحب قريبك كنفسك. ليس وصية أخرى أعظم من هاتين“ (مرقس 30:12-31). بل علّمنا المسيح محبة الأعداء قائلاً: ”سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوّك، وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم“ (متى 43:5-44).

كذلك يوصينا الروح القدس بالمحبة في دائرة الأسرة: ”أيها الرجال أحبوا نساءكم كما أحبّ المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها“ (أفسس 25:5). وتتكرر التوصية بالمحبة مراراً في الرسائل مثلما جاء في 1بطرس 8:4 ”ولكن قبل كل شيء لتكن محبتكم بعضكم لبعض شديدة، لأن المحبة تستر كثرة من الخطايا“.

وفي كولوسي 14:3 ”وعلى جميع هذه البسوا المحبة التي هي رباط الكمال“. وفي أفسس 1:5-2 ”فكونوا متمثّلين بالله كأولاد أحباء واسلكوا في المحبة كما أحبنا المسيح أيضاً“. ولا يسعنا المجال أن نقتبس كل ما جاء عن المحبة، فهي تُذكر كأول عنصر في ثمر الروح القدس (غلاطية 22:5). هذه المحبة ليست بالكلام واللسان بل بالعمل والحق. وفي المرة القادمة بإذن الله سنتكلم عن الصفات التي تولّدها المحبة.

المجموعة: 200806