أيار (مايو) 2008

الإيمان ”كتابياً“ هو نفحة روحٍ سماويٍّ وإشراقة نورٍ قدسيٍّ تعمل داخل القلب المتواضع فتوجّهه نحو الخالق العظيم وتولّد فيه إحساساً دائماً بوجوده وقدرته السامية، وابتغاء لرضوانه، والسير حسب مشيئته، وشعوراً بعدم الاستحقاق الشخصي أمامه، وطلب رحمته وغفرانه، ومخافة البعد عنه أو عصيان وصاياه بإساءة السلوك أمامه. وهو حدث اختباريّ لا يأتي عن طريق الوراثة، ولا التشيّع أو التعبّد الشكلي ولا بتحسين الذات واتباع أعمال الإحسان التي لا بدّ منها حيث تكون مقبولة على أساس كونها نتيجة لفعل الإيمان في القلب المطهّر بعمل الفداء.

 

وللإيمان فروع ودرجات نستقرئها من كلمة الله الحية ونرصدها في حياة المؤمنين الذين سبقونا في مسيرة الوجود على وجه هذه البسيطة.

1- الإيمان الخلاصي

الإيمان الخلاصي يأتي نتيجة الإحساس بفساد الطبيعة البشرية كما يقول داود في المزامير: ”هئنذا بالإثم صُوّرت وبالخطية حبلت بي أمي“ (مزمور 5:51)، مع فشل المساعي الشخصية كما يقول الرسول بولس: ”فإني أعلم أنه ليس ساكن فيّ، أي في جسدي، شيء صالح. لأن الإرادة حاضرة عندي، وأما أن أفعل الحسنى فلست أجد. لأني لست أفعل الصالح الذي أريده، بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل“ (رومية 18:7-19)، وتقصير الأعمال الحسنة وعدم نفعها كما يقول النبي إشعياء: ”وقد صرنا كلنا كنجس، وكثوب عِدَّة كل أعمال برّنا، وقد ذبلنا كورقة، وآثامنا كريح تحملنا“ (إشعياء 6:64). ولا حتى البحث والرغبة كما يقول أيضاً: ”نزأر كلّنا كدبّة، وكحمام هدراً نهدر. ننتظر عدلاً وليس هو، وخلاصاً فيبتعد عنا“ (إشعياء 11:59). فجميع وسائل الإنسان الشخصية تبدو فاشلة وقاصرة عن تغيير طبيعة الفساد وتحويل توجهات النفس. ويؤكد الكتاب أن هناك طريقاً واحداً فقط هو الاعتماد على عمل النعمة الإلهية ”لأنكم بالنعمة مخلّصون، بالإيمان، وذلك ليس منكم. هو عطية الله. ليس من أعمال كيلا يفتخر أحد“ (أفسس 8:2-9).

والرسول بولس يخصص في المعنى أكثر إذ يدعو الخلاص عملاً إلهياً كاملاً حسب اختيار النعمة المسبق في علم الآب قبل تأسيس العالم ”كما اختارنا فيه [المسيح] قبل تأسيس العالم، لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة، إذ سبق فعيّننا بيسوع المسيح لنفسه، حسب مسرة مشيئته“ (أفسس 4:1-5). وعبارة ”بلا لوم“ هي بيت القصيد إذ أن المؤمن المخلّص ليس بلا عيب بل بلا لوم، أي أن المسيح أخذ اللوم عنا فبرّرنا بموت الصليب!!! والرسول بطرس أيضاً يعتبر ذلك الاختيار ليس بقرار مسبق من الله بل بحسب علمه السابق فيقول: المختارين ”بمقتضى علم الله الآب السابق، في تقديس الروح للطاعة، ورش دم يسوع المسيح“
(1بطرس 2:1). ويقول الرسول بولس أيضاً بهذا المعنى: ”ولكن أساس الله الراسخ قد ثبت، إذ له هذا الختم [ختم الكلمة الإلهية الموحى بها]. يعلم الرب الذين هم له“
(2تيموثاوس 19:2). وهذا لا ينفي وجود اختيارات خاصة لأهداف معينة في قصد الله ولأجل مجد ملكه.

2- الإيمان الواثق

وهو الوثوق بقدرة الله وسلطانه وصدق مواعيده ويؤدي ذلك إلى الإركان لمشيئته والخضوع لكل تدابير هذه المشيئة برضى واطمئنان مع عدم الشك أو الارتياب مهما تقلّبت الظروف كما يقول المرنم: ”الله لنا ملجأ وقوة. عوناً في الضيقات وُجد شديداً. لذلك لا نخشى ولو تزحزحت الأرض، ولو انقلبت الجبال إلى قلب البحار“ (مزمور 1:46-2). ويترنّم الرسول بولس بهذه الأنشودة الرائعة: ”من سيفصلنا عن محبة المسيح؟ أشدة أم ضيق أم اضطهاد  أم جوع أم عري أم خطر أم سيف؟... فإني متيقّن أنه لا موت ولا حياة، ولا ملائكة ولا رؤساء، ولا قوات، ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا علو ولا عمق، ولا خليقة أخرى، تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا“ (رومية 35:5-39). فيا لها من ثقة يركن إليها القلب مطمئناً إلى قدرة الروح القدس الصالح الذي يثبّتها.

3- الإيمان الراجي

فإذا كان الإيمان الواثق يعطينا التأكيد بصدق مواعيد الله وقوة حمايته في حياتنا الأرضية فإن الإيمان الراجي يعطينا التأكيد بصدق تلك المواعيد وثباتها بحيث نُركن إليها كل الإركان لحياتنا الأبدية كما يقول الرسول بولس: ”قد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان، وأخيراً قد وُضع لي إكليل البر، الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل، وليس لي فقط، بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضاً“
(2تيموثاوس 7:4-8). فما أجمل ذلك الربط بين صيغة الماضي في عبارة ”قد وُضع لي“ وصيغة المستقبل في عبارة ”يهبه لي“ بحيث يؤكد قوة ذلك الرجاء الراسخ في قلب هذا الرسول الأمين، وجميع الذين خلصوا بالحق يتمتّعون بهذا الرجاء المبارك، وأهم ما في الأمر هو اللقاء الرائع مع شخص الرب يسوع والوجود معه في مجد السماء.

وللإيمان درجات متفاوتة بين شخص وآخر تشهد عن عظمة الله، وكمال تدبيرات نعمته الغنية، وعدم محدودية تعاملاته المباركة. فهو فريد في كماله، وكامل في تفرّده. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل توجد نماذج بشرية كثيرة على أرض الواقع تؤيد صحة هذه المعطيات وتؤكد إمكانية التمرّس بتلك الميزات؟!

إن التاريخ المقدس مليء بالشخصيات التي مارست حياة الإيمان عملياً بكل صدق وإخلاص وبقلوب نقية أثارتها محبة الله، فأصبح هؤلاء أمثلة تُحتذى، وأصبحت حياتهم مدرسة للذين يريدون أن يعيشوا حياة كاملة أمام الله رغماً من ضعفاتهم البشرية.

ونحن نبني هذه الاستنتاجات من سِيَر هؤلاء، على صدق الكلمة الإلهية التي ليس فيها أي تزوير أو إخفاء لبعض الحقائق لغايات بشرية خاصة! وذلك باستقراء الأحداث بما في ذلك الأمثلة الكثيرة التي هي مثار للنقد أو النقاش سواء في العهد القديم أو الجديد لأن الكتاب المقدس بجملته ليس فيه ما يمنع التساؤل أو الاستفسار عن أية قضية تمتُّ بصلة إلى أي من شخصيات الكتاب مهما كان مركزها الروحي أو منزلتها في نظر الله أو الناس. فهذا الكتاب لم يخفِ أية خطيئة صغيرة كانت أم كبيرة، ولم يتستّر عن ضعفات القديسين معلناً بذلك صدقه، وعصمته، وبعده عن التدخّلات الشخصية المغرضة. فقد حفظه الله من التلاعب والتزوير على مدى الأجيال، ولو سمح للبشر أن يُعملوا فيه أقلامهم لغيّروا الكثير وأخفوا سقطات أنبيائهم وقديسيهم، وذلك لم يحدث مطلقاً، فالكتاب منذ نشوئه موزّع في أصقاع الأرض وبمختلف اللغات، فكيف يتسنى لفريق ما جمعه من أرجاء الدنيا وإعادة صياغته ثم توزيعه من جديد دون أن تبقى في خبايا الناس نسخة واحدة غير محرّفة؟  إن هذا لمستحيل الوقوع فيه تحت أي ظرف من الظروف.

وهنا يبرز سؤال آخر: لماذا سمح الله بتدوين سقطات أنبيائه العظام؟ فالكتاب يبيّن أن نوحاً قد سكر وتعرّى، وإبراهيم وإسحق كذبا، وموسى فرّط بشفتيه، وشمشون النذير قد غوي، وداود زنى وقتل، وسليمان انحرف عن عبادة الله...

ولكن نبوات العهد القديم التي تضمنت جوانب حياة المسيح يسوع وروايات البشيرين والرسل، لم تظهر في أية فقرة منها ضعفاً أو خطية ما لشخصه المبارك، ولكنها جميعها تشهد له بكمال حياته، ونقائها، وطهارتها، ولبره الكامل كالشخص الوحيد الذي تفرّد عن كل المنحدرين من سلالة آدم، إثباتاً أن يسوع ابن الإنسان بتجسده من امرأة هو ابن الله روحياً ولا مثيل له بين جميع البشر.

إن التعمّق في دراسة سِيَر الأنبياء والقديسين يؤدي بنا إلى معرفة أسباب الفرق بين المؤمن وغير المؤمن والتمايز بين حياة مؤمن وحياة مؤمن آخر. ”فقال الرسل للرب: زد إيماننا. فقال الرب: لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل، لكنتم تقولون لهذه الجميزة انقلعي وانغرسي في البحر فتطيعكم“ (لوقا 6:17). ولا ينصرف قصد الرب هنا إلى مقدار حبة الخردل بل إلى طبيعتها كحبة صغيرة ولكنها كاملة العناصر وقابلة للإثبات، وقد بيّن له المجد هذا المعنى في تشبيه ”ملكوت السموات بحبة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله فنمت وصارت شجرة تأتي طيور السماء وتتآوى في أغصانها“. ويوضّح الكتاب في مواضع أخرى أن الله هو الذي ينمّي، فالإيمان الصحيح لا بدّ وأن ينمو ويتقوّى. فإذا أخذنا مثلاً أياً من فصول حياة إبراهيم أبي المؤمنين فإنه يخبرنا عن مسيرة الإيمان في مختلف جوانبها، واختباراتها، ونتائجها، ومكافآتها، كالمقطع المدوّن في الأصحاح الثاني والعشرين من سفر التكوين، ولإلهنا وحده وربنا يسوع المسيح كل العصمة والقداسة.

المجموعة: 200805