أيار (مايو) 2008

"هوذا النار والحطب ولكن أين الخروف للمحرقة" (تكوين 7:22).

"هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم" (يوحنا 29:1).

سفر التكوين هو سفر البدايات وهو أول سفر من أسفار الكتاب المقدس ، وسًمِّي بهذا الاسم لأننا نقرأ فيه عن بداية وتكوين كل شيء، وينقسم إلى  ثلاث بدايات.

البداية الأولى هي بداية الخليقة كلها (الأصحاح الأول والثاني)

البداية الثانية هي بداية خلق الجنس البشري. (الأصحاح الثالث إلى الحادي عشر)

البداية الثالثة هي بداية نسل إبراهيم وأولاده اسحق، ويعقوب، ويوسف.(الأصحاح الثاني عشر إلى نهاية الأصحاح الخمسين).

 

والغريب أن هذا السفر يبدأ بالحياة وينتهي بالموت حيث نقرأ: "ثم مات يوسف وهو ابن مئة وعشر سنين، فحنّطوه ووُضع في تابوت في مصر" (تكوين 26:50). وكأن الله يريد أن يذكّرنا بأن حياة الإنسان مهما طالت لا بدّ وأن تنتهي بالموت. هذا ما ذكره بولس الرسول عندما كتب لتلميذه الحبيب تيموثاوس بأننا ”لم ندخل العالم بشيء، وواضح أننا لا نقدر أن نخرج منه بشيء. فإن كان لنا قوت وكسوة فلنكتفِ بهما" (1تيموثاوس 7:6-8). ثم ذكر لنا الكتاب المقدس في سفر الجامعة عن حياة الملك سليمان الذي اقتنى كل شيء في الوجود حتى قال: "ومهما اشتهته عيناي لم أمسكه عنهما. لم أمنع قلبي من كل فرح...  ثم التفتّ أنا إلى كل أعمالي التي عَمِلَتها يداي، وإلى التعب الذي تعبته في عمله، فإذا الكل باطل وقبض الريح، ولا منفعة تحت الشمس“ (الجامعة 10:2-11).

إن ناموس الله في الكتاب المقدس يعلن لنا بكل وضوح أنه ”بدون سفك دم لا تحصل مغفرة". فعندما أخطأ آدم وامرأته حواء قام السيد الرب بذبح حيوان، وسفك دمه، وصنع لهما "أقمصة من جلد"، وألبسهما معلِّماً إياهما من خلال هذا العمل أنه كان لا بد من سفك دم بريءٍ للتكفير عن خطاياهما. ثم بدورهما قد علّما  أولادهما أن طريق الفداء لا يأتي إلا من خلال كفارة الدم. وإذ آمن هابيل بوصية والديه قدّّم ذبيحة من "أبكار غنمه ومن سمانها، فنظر الرب إلى هابيل وقربانه"، أما قايين فكان قد قدّم قرباناً إلى الرب من ثمار الأرض لذلك رفض الله قربانه لأن الله قد أعلن وصرّح قائلاً: "لأن نفس الجسد هي في الدم، فأنا أعطيتكم إياه على المذبح للتكفير عن نفوسكم، لأن الدم يكفّر عن النفس" (لاويين 11:17).

لا بد وأن قصة الفداء بالدم كانت قد تعمّمت على الناس في ذلك الوقت، فنرى نوحاً بعدما خرج من الفلك بنى مذبحاً للرب وقدّم عليه ذبائح من الحيوانات الطاهرة والطيور الطاهرة. ثم نرى موسى النبي الذي تعلّم من خلال ذبيحة الفصح في مصر - عندما أخذ من دم الذبيحة ورشّ دمها على القائمتين والعتبة العليا - أن الطريق للهروب من قضاء الله هو دم الخروف المذبوح الذي كان بديلاً أو فدية عن كل بكر في البيت الذي وضعت عليه علامة الدم.

هذا يقودنا إلى القصة المؤثرة التي تمثّل قمة الطاعة والتضحية في الكتاب المقدس ألا وهي قصة إبراهيم خليل الله الذي تعلّم من الكبش الذي قدّمه عوضاً عن ابنه أن هذا الكبش ما هو إلا رمز واضح "للذبح العظيم" حمل الله الذي يرفع خطية العالم.

تبدأ هذه القصة بالكلمات التالية:

"وحدث بعد هذه الأمور"، أي بعد أن وعد الله إبراهيم بأن سارة امرأته ستحبل وتلد ابناً ويدعونه إسحاق [علماً بأن سارة لا يمكنها أن تحمل وهي في التسعين من عمرها، ولكن الله وفى بوعده وولدت إسحاق].

ثم مرّت السنون وأراد الله أن يمتحن إيمان إبراهيم بقوله:

"خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق واذهب إلى أرض المريا، وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك. فبكّر إبراهيم صباحاً وشدّ على حماره، وأخذ اثنين من غلمانه معه، وإسحاق ابنه، وشقّق حطب المحرقة وقام وذهب إلى الموضع الذي قال له الله".

من الغريب أن إبراهيم لم يحاول أن يسأل أو يحاور الله بل أسرع في تنفيذ أمر الله بلا تردُّد أو تمهُّل. 

لقد أخذ إبراهيم معه أربعة أشياء: الحمار، والحطب، والسكين، والنار. ولكل منها  رمزه في الكتاب المقدس.

فالحطب يرمز إلى الخطية، والحمار يرمز إلى العناد المتأصل في حياة البشر، والسكين ترمز إلى العدالة، والنار ترمز إلى قداسة الله "لأن الرب إلهك هو نار آكلة"
(تثنية 24:4). يقول الكتاب بأن إبراهيم عندما وصل إلى المكان الذي عيّنه الله له، أخذ حطب المحرقة عن الحمار ووضعه على إسحاق كرمز لحمل الله الذي وضع الله عليه إثم جميعنا. وهذا ما تنبأ عنه إشعياء النبي قائلاً: "كلنا كغنمٍ ضللنا. ملنا كل واحد إلى طريقه، والرب وضع عليه إثم جميعنا" (إشعياء 7:53).

"وفي اليوم الثالث رفع إبراهيم عينيه وأبصر الموضع من بعيد" (تكوين 4:22). إن رقم ثلاثة في الكتاب المقدس يرمز إلى القيامة بعد الموت.  ففي هذه الثلاثة أيام كان إبراهيم ينظر إلى ابنه وكأنه ميت إلى اللحظة الأخيرة حيث افتداه الله بكبش كان قد هيأه الله بديلاً عن ابنه.

"فقال إبراهيم لغلاميه: اجلسا أنتما ههنا مع الحمار، وأما أنا والغلام فنذهب إلى هناك ونسجد، ثم نرجع إليكما" (تكوين 5:22). وكأني بإبراهيم يعبّر عن إيمانه عندما قال لغلاميه ”نذهب“ و ”نرجع“ (بصيغة الجمع) وكأن إبراهيم كان يؤمن بأن الله سيعيد رماد محرقة ابنه ويُرجع له إسحاق. أوَليس هو إله المستحيلات؟!!! ذلك أن سارة التي كان من المستحيل عليها أن تحمل لكبر سنها، وعدها الله وأعطاها مقدرة بأن تحبل وتلد إسحاق. حتى قيل في كلمة الله: "بالإيمان قدّم إبراهيم إسحاق وهو مجرّب... الذي قيل له: إنه بإسحاق يُدعى لك نسل. إذ حَسِبَ أن الله قادرٌ على الإقامة من الأموات أيضاً"(عبرانيين 17:11-18).

"فأخذ إبراهيم حطب المحرقة ووضعه على إسحاق ابنه، وأخذ بيده النار والسكين. فذهبا كلاهما معاً" (تكوين 6:22). وفيما هما سائران أدرك إسحاق بأنه هناك شيئاً ناقصاً فسأل أباه: ”يا أبي. فقال: هئنذا يا ابني. فقال: هوذا النار والحطب، ولكن أين الخروف للمحرقة؟“

”هوذا النار“ التي ترمز إلى قداسة وعدالة الله، وهوذا ”الحطب“ الذي يرمز إلى خطية الإنسان ونجاسته، ”ولكن أين الخروف“ الذي يكفّر عن الإنسان الخاطئ ويُرجِع الإنسان إلى علاقته مع الله القدوس؟

وظلّ سؤال إسحاق يتردّد صداه خلال العصور والأجيال لمدة ألفي عام، إلى اليوم الذي فيه أبصر يوحنا المعمدان يسوع مقبلاً إليه فأشار يوحنا بإصبعه نحو يسوع قائلاً: "هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم" (يوحنا 29:1).

لقد كانت الحملان تُقدَّم كذبائح للتكفير عن الخطية. فهابيل قدّم من أبكار غنمه [ذبيحة واحدة لشخص واحد]. وفي يوم الفصح كان كل بيت يقدِّم ذبيحة واحدة لخلاص البيت. وفي سفر اللاويين كان الكاهن يقدِّم ذبيحة واحدة لأجل الشعب. لكن المسيح كان قد قدَّم نفسه كحمل الله لأجل خطية العالم. "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يوحنا 16:3). لقد كان موت المسيح هو التضحية النهائية الكاملة التي قصدها الله  للتكفير عن خطية العالم.

ما زالت معظم ديانات العالم تسأل سؤال إسحاق: "هوذا النار والحطب ولكن أين الخروف؟!! لأن كل أضاحي العهد القديم لم تكن إلا رمزاً أو تذكيراً لحمل الله،  الذي هو وحده التضحية الوحيدة الكافية للتكفير عن خطية العالم كله. لذلك كانت صرخة المسيح الأخيرة فوق الصليب: "قد أُكمل"، أي أن أجرة الخطية البشرية قد دُفع ثمنها واستوفت العدالة الإلهية حقها بموت المسيح البديل عن خطية كل العالم.

"فلما أتيا إلى الموضع الذي قال له الله، بنى هناك إبراهيم المذبح ورتّب الحطب وربط إسحاق ابنه ووضعه على المذبح فوق الحطب. ثم مدّ إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبح ابنه. فناداه ملاك الرب من السماء وقال: إبراهيم إبراهيم. فقال: هئنذا. فقال: لا تمدّ يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئاً، لأني الآن علمت أنك خائف الله، فلم تمسك ابنك وحيدك عني. فرفع إبراهيم عينيه ونظر وإذا كبش وراءه مُمْسَكاً في الغابة بقرنيه، فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده محرقة عوضاً عن ابنه" (تكوين 9:22-11).

"فأخذ إبراهيم الكبش وأصعده محرقة عوضاً عن ابنه". في هذه العبارة نرى فكرة التعويض التي توضِّح لنا عقيدة الفدية أو الفداء أو البديل التي رسمها الله وحققها بموت (المسيح) على الصليب عوضاً أو فديةً أو بديلاً عنا. وهذا ما أوضحه لنا بولس الرسول إذ قال: "لأنه جعل الذي لم يعرف خطية [أي المسيح الفادي]، خطية [ذبيحة خطية] لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه"  (2كورنثوس 21:5).

قلنا في ما سبق بأن الحطب يرمز إلى الخطية، وهذا ما نراه تماماً: فالحطب احترق وصار رماداً وحملته الريح وبدّدته. وهو إشارة إلى قول الله: "كبعد المشرق من المغرب أبعد عنا معاصينا" (مزمور 12:103). "لأني أصفح عن إثمهم ولا أذكر خطيتهم فيما بعد" (إرميا 34:31).

"ونادى ملاك الرب إبراهيم ثانية من السماء وقال: بذاتي أقسمت يقول الرب، أني من أجل أنك فعلت هذا الأمر، ولم تُمسك ابنك وحيدك، أباركك مباركة وأكثّر نسلك... ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض، من أجل أنك سمعت لقولي" (تكوين 15:22-18).

من هنا نتعلم : أنه حيثما تكون المحبة لا بدّ وأن يكون هناك طاعة، وحيثما توجد الطاعة لا بد وأن تأتي البركة.

وفي الختام أريد أن أقول بأن الكتاب المقدس من أوله الى آخره يشرح لنا عن سقوط الإنسان في الخطية وكيفية الخلاص منها، ويركّز على أن الخلاص هو بدم المسيح "الذبح العظيم" الذي مات فدية عن خطايانا، وإليك الآيات التالية:

"الذي أحبنا، وقد غسّلنا من خطايانا بدمه" (رؤيا 5:1).

"هؤلاء هم الذين... غسّلوا ثيابهم وبيّضوها في دم الخروف" (رؤيا 14:7).

”ودم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية" (1يوحنا 7:1).

 

 ينبوعُ جودٍ من دمٍ زاكٍ جرى

من جسم فادينا الذي أحيا الورى

مطهراً من اغتسل فيه اكتسى ببر الحمل

*    *    *

يا حملاً قد مات عن جنس البشر

هذا الدم الثمين دائم الأثر

حتى ينجي بالسلام بيعته على التمام

*    *    *

لما رأيت سيل هاتيك الدما

بعين إيمان به ينفي العمى

قد صار حب من فدى موضوع شكري أبدا

المجموعة: 200805