أيار (مايو) 2008

الحديث عن الإرهاب حديث يطول، فالإرهاب في أساليبه المستحدثة أصبح آفة تنخر كالسوسة في عظام المجتمع الإنساني لتعيده إلى شريعة الغاب. ويُلاحظ أن بعض الإرهابيين في هذا الزمن سرقوا البساط من تحت أرجل رجال الدّين الموزونين والْتحفوا به، فانتحلوا بذلك هوية بغير حق، ونتيجة ذلك انقلبت الموازين عند الكثيرين حتى أصبح مَنْ يحتجُّ على الإرهابيين يُتّهم بالردّة، ومن يؤدهم يُتهم بالتآمر، واختلف الناس في تحديد هوية الإرهاب رغم وضوح الصورة المختلف عليها. فالعالم كله يقرّ اليوم بأنّ كلّ عملٍ مخططٍ له في الحكم على الآمنين بالإعدام خارج سلطة الدولة هو عمل إرهابي، وفاعله مدانٌ في الأرض وفي السماء. وهذا لا ينفي أنّ بعض الإرهاب تمارسه مؤسسات ودول، وفي كلّ الأحوال فالإرهاب لا دين له ولا وطن ولا هوية له إلا هوية الغاب.

 

في مقال سابق أشرنا إلى عملٍ إرهابي مارسه رجل ارتدى عباءة الدّين، فبدا بأنه غيّور على دين آبائه، يتعصّبُ له ويمقت كلّ من خالفه فيه، ويسعى لهلاكه، واستمرّ الرجل ينفث تهدداً وقتلاً ضد المسيحية والمسيحيين، إلى أن صدمته الحقيقة يوماً على غير انتظار حين ظهر له المسيح فجأة برؤيا خارقة في وضحٍ من النهار، وقال له: لماذا تضطهدني، صعبٌ عليك أن تدوس على الحراب! وكان ذلك على طريق دمشق، وهو ذاهبٌ للقيام بمهامٍ إرهابية ضد المسيحيين هناك من هول الرؤيا سقط الرجل على الأرض في ذهول، وما هي إلا لحظات حتى أدرك أن كلّ ما بنى عليه في تعصُّبِهِ كان باطلاً، وأن الحقيقة بانت عكسية، وأنه بتديّنه المشحون بمعاداة الآخرين، إنما كان يعادي الله، وأنه بحماسه الديني ضدّ مَنْ لا ينهج نهجه، لا يعني أنه يمتلك الحقيقة، وأدرك أن رجال الدِّين الذين شحنوه بالكراهية والبغضاء إنما كانوا دعاة شرٍّ استغلوا حماسه وقدراته الشبابية لدوافع عدوانية ألبسوها ثياب الدّين... فلما أدرك خطأه اقتنع أن يسوع المسيح الذي عاداه وعادى شعبه هو ربّ هذه الكائنات وهو مسيحٌ مقتدرٌ لا يُقاوَم.

وفي ضَوْء هذه الحقيقة بدأ الرجل يعيد حساباته على مدى ثلاثة أيام، انقطع خلالها عن الطعام والشراب وهو يتفكر ندماً على ما فات، ثم نهض وخلع عنه عباءة التديّن الزائف، فتغيّر الرجل من إنسان وحشيٍّ مريعٍ إلى حملٍ وديع. وهذا ما يصنعه المسيح في مَنْ يدرك حقيقة هوية المسيح ويخضع لسلطانه.

عزيزي القارئ، الإرهابي الذي نتحدث عنه هو شاول الطرسوسي، رجل يهودي متعصّب شحنه رجال الدين في عصره بكراهية الآخرين، فانصبَّ غضبه على المسيحية في بدايات عهدها، والحديث الذي نحن بصدده مرَّ عليه حتى الآن قرابة الألفي عام، وها نحنُ اليوم نلاحظ أنَّ نفس الصورة تتكرّر في بعض صور الإرهاب تحت غطاء الدّين والدّين منه براء.

والمهم أنّ شاول هذا بعدما تغيّر صار من أنجح المبشرين بالمسيحية بين الشعوب في أوروبا والشرق الأوسط خلال القرن الأول للميلاد، وتغيّر اسمه من شاول إلى بولس وصار يُعرف ببولس الرسول، وبمناداته بالإنجيل تحوّلت شعوب الإمبراطورية الرومانية مع الأيام من الوثنية إلى المسيحية فتغيّر بذلك وجه التاريخ.

ونقولها بصراحة أن اختبار شاول الطرسوسي هذا اختبار ما زال يتكرر في حياة الكثيرين ممَّن كفّروا المسيحية وألصقوا بها ما هبَّ ودبَّ من ضلالات بغير حق، لكن من سمح منهم لنفسه أن يقترب منها ويتفحّصها عرفها على حقيقتها، واستنار بها، وندم على ما فات كما ندم شاول، وتغيّر كما تغيّر ذاك وانخرط في صفوفها، وبعضهم عانى، ويعاني اليوم، لكن كما يقول الإنجيل الكريم: "إن آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا".

لديّ هنا ملاحظة لا بدّ من الإشارة إليها، وهي أن البعض من غير المسيحيين ممن لا تروق لهم أنشطة بولس يتهمونه جزافاً بأنه حرَّف المسيحية عن مسارها... والنقد الذي يقدّمونه ليس أكثر من مجرّد طرحٍ في الهواء لا يستند إلى حقائق، فلهؤلاء نقول أن المسيحية كانت قد اكتملت بعقيدتها قبل بولس بسنوات عديدة، وعندما دخلها بولس دخل على أرضيةٍ راسخةٍ صلبةٍ، وقَبِلَها بولس كما هي وجنّد كلّ جهوده لنشر رسالتها كما تعلَّمها، ولم يخرج عن خط العقيدة التي نادى بها سابقوه، وهذه حقائق موثقة تشهد لها أسفار الوحي في الإنجيل الكريم، فقبل بولس وبعد بولس العقيدة هي هي لم يتغيّر فيها شيء. وهذا يدعونا للقول أن ما زال هناك أناس لا يُتْقنون أسلوب البحث العلمي للتَّثبُّت من أيّ طرحٍ يصل إلى مسامعهم.

على كلّ حال، تبقى الحقيقة في نور الشمس، بأن شاول الطرسوسي المسمّى بولس فيما بعد، قد تحوّل من إرهابي معادٍ للمسيحية إلى مبشرٍ نشطٍ يحمل رسالتها وينادي بها، وقد صرف باقي حياته في خدمة المسيح إلى أن استشهد، وبمناداته بالمسيحية اندثرت الوثنية في هياكل أوروبا بدون معاداة لأحد، لأن الرسالة التي نادى بها بولس وغير بولس من رسل المسيح جذبت الشعوب إليها واستناروا بها. فرسل المسيح أيّاً كانوا لم يحملوا سلاحاً في وجه أحد، سلاحهم الوحيد كان كلام الإنجيل الذي يُحيي النفوس ويستأصل نوازع الشرّ من القلوب، أما أسلحة الناس فتلك أدوات قتال ودمار واستعمالها يخيف ويُرعب، ويُرهب ويذلّ.

قال المسيح لأتباعه: "ها أنا أرسلكم مثل حملان بين ذئاب". وقال: "اذهبوا إلى العالم أجمع ونادوا بالإنجيل للخليقة كلها"، فانطلق هؤلاء يجوبون الدنيا بلا سلاحٍ ولا رماح، وأصغت الشعوب لرسالتهم أفرادٌ وجماعاتُ وأقبل الكثيرون إلى الإيمان بالمسيح بلا ضغوطٍ أو إغراءٍ أو تهديدٍ أو وعيدٍ. فأثبتت كلمة الإنجيل أنها أقوى من السلاح والرماح، وبتأثيرها تحولّت الذئاب الضَّارية إلى خراف وديعةٍ، فكان شاول الطرسوسي واحداً من هؤلاء. هنا أطلب مجدداً من منتقدي بولس أن يعيدوا قراءة التاريخ، ليلاحظوا أن مسيرة العقيدة المسيحية قبل بولس وبعده واحدة، وكلّ ما عمله بولس حين جاء دوره ليقوم بالمهمة، أنْه حمل رسالة الإنجيل من دائرة بلاد الشام وسار بها إلى البلدان الأوروبية الوثنية آنذاك، فزاد ذلك من انتشار المسيحية بين شعوب وبلدان كانت تعيش في الوثنية. ثم امتدّت المسيحية فيما بعد من أوروبا  إلى أميركا الشمالية والجنوبية وإلى استراليا ونواحٍ أخرى من العالم.

وقبل أن نصل إلى ختام هذا البحث أقول لكلّ من يرغب الاطلاع بتوسّع على سيرة حياة هذا الرجل العظيم والرسول الكريم بولس الرسول أن يرجع إلى سفر أعمال الرسل، وهو سفرٌ جليلٌ بين أسفار العهد الجديد - الإنجيل، سفر الأعمال يغطي الكثير من سيرة حياة بولس، ثمّ هناك ثلاث عشرة رسالة كتبها بولس الرسول وهي مدرجة بين أسفار الوحي في العهد الجديد - أي الإنجيل الكريم، كتبها إلى كنائس وأفراد يشدّدهم بالإيمان ويعالج فيها الكثير من القضايا.

المجموعة: 200805