نيسان April 2010

في مقالات سابقة ضمن حُزمة الخطوات الإيمانية، تأملنا بنعمة الرب بخطوات لا بدّ منها لكل مؤمن يسعى في طريق معرفة القدوس معرفة كاملة، متقدماً خطوة إثر أخرى نحو الهدف الأسمى.. متشبهاً بسيده الذي أرسى قواعد البناء لشخصيةٍ تسلك بموجب قصد الله الصالح، فتبلغ في نهاية المطاف إلى ذلك اللقاء البهيج المرتقب، لتتمتّع بالوجود الأبدي في محضره المبارك، وتتسلم من يده الكريمة مكافآت تعبها وصبرها وثباتها.

والثبات هو برهان الحقيقة لكل أمر. فنحن نصبح أبناء لله بقبول كفارة دم المسيح الفادي، ويتعيّن لنا الميراث الأسمى في ملكوته السعيد. ولكن مع هذا، فنحن مطالبون بأن نثبت عملياً هذه البنوّة فنعمل لبناء ملكوت الله فينا. فالابن الذي يعمل في ملكوت أبيه إنما هو يعمل في ميراثه الأبدي، كما يقول رسول الجهاد العظيم بولس: "فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَدًا فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضًا، وَرَثَةُ اللهِ وَوَارِثُونَ مَعَ الْمَسِيحِ. إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضًا مَعَهُ" (رومية 17:8). هو يشبِّه حياة المؤمن بالبناء الذي يبنيه كل فرد لنفسه. ونعلم أن كل بناء له أركان، والغاية من تلك الأركان أن يكون البناء ثابتاً قوياً لا ضعيفاً متقلقلاً بل مؤسساً على صخر الدهور الذي لا يتزعزع.

يقول المثل: "ليس كل ما يلمع ذهباً". فكم من المنتجات التي تبدو لامعة حيناً تصدأ ويتغيّر لونها إذا ما تداولتها الأيدي؟! قال أحد خدام الكلمة: "إن شأن الذين يعترفون بالمسيح في بعض الأوقات الخاصة كالمؤتمرات والاجتماعات الانتعاشية كشأن أزهار الربيع التي تبدو جميلة بألوانها الزاهية، تَعدك بالثمر الطيب، ولكن القليل من تلك الأزهار تصبح ثمراً يؤكل. لذلك فقد وضع الرب، له المجد، هذه القاعدة الراسخة "من ثمارهم تعرفونهم".

 

أولاً: ما هي ضرورات الثبات؟

- الثبات ضروري للنجاح. فلا شيء من الأعمال العظيمة يتم بدون ثبات. والذي يجبن ويتراجع عند أية صدمة أو تجربة لا يمكنه أن ينجح في الطريق الذي يسير فيه. قال الرب يسوع: "لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْمِحْرَاثِ وَيَنْظُرُ إِلَى الْوَرَاءِ يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ اللهِ" (لوقا 62:9). إنه قد يصبح مجرد عمود ملح..!

- والثبات ضروري للسلامة والأمان. فربما غرق كثيرون على مقربة من الشاطئ، وقد غرقت سفن كثيرة بعد دخولها إلى الموانئ...

- والثبات ضروري لإكمال السعي نحو الغرض بدون تعثّر. وقد شبّه الرسول بولس حياة الإيمان بالجري في ميدان سباقٍ، والذي يفوز فيه هو الذي يبقى ناظراً نحو الهدف، وثابتاً إلى النهاية رغم المعوقات والصعوبات التي لا بد منها.

- والثبات ضروري لبلوغ أعظم الاختبارات الروحية. فلماذا يبقى بعضنا مستمتعاً بالعيش على رمال الشاطئ؟ لأنهم لا يريدون الدخول إلى العمق خوفاً من مقارعة الأمواج. ولقد حصل أبطال الإيمان ورجال الله طيلة عصر الكنيسة على أعظم الاختبارات بسبب ثباتهم في حروبهم الروحية القاسية التي اجتازوها، وصارت سيرتهم منارات لنا في بحار التجارب والأمواج.

ثانيًا: ما هي عوامل ثبات المؤمن؟

هنالك عوامل عدة تساعد الذين يستخدمونها على الثبات:

1- أن يستمدوا الحياة من رب الحياة لحظة فلحظة. وهذا يقتضي أن نكون في صلة دائمة مع الرب كالغصن الثابت في الكرمة. إن حياتنا ليست نبعاً دائم الجريان في ذاته، فحين أخذنا نعمة الخلاص حصلنا عليها بقوة الروح القدس. والذي ملأ في تلك الدقيقة يقدر أن يملأ الدقائق التي بعدها وحتى النهاية!

2- تدريب النفس والتعوّد على حياة الإيمان. إن أي عمل لا يصبح متقناً منذ المحاولة الأولى، وحياة الإيمان، تحتاج للممارسة السليمة وذلك يقتضي طرح عادات وتقاليد بالية والتدرّب على الطرق الكتابية. والمعروف أن العادة تنشأ عن تكرار الأفعال الصغيرة وتواليها، ومن ثمّ تترسّخ ويصعب التخلّص منها. ولكن عمل النعمة الإلهية يساعدنا على أن ننسى ما هو وراء ونمتدّ إلى ما هو قدّام، ونحاضر بالصبر في الجهاد الموضوع أمامنا. فالرياضيون والذين يمارسون التدريب القاسي المنظّم يصلون إلى اللياقة البدنية التي تمكنهم من القيام بأشياء رائعة. والمؤمن يحتاج إلى اللياقة الروحية التي تؤهله لكي يكون عضواً فعالاً في ملكوت المسيح. يقول كاتب سفر العبرانيين: "وَلكِنَّ كُلَّ تَأْدِيبٍ فِي الْحَاضِرِ لاَ يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ بَلْ لِلْحَزَنِ. وَأَمَّا أَخِيرًا فَيُعْطِي الَّذِينَ يَتَدَرَّبُونَ بِهِ ثَمَرَ بِرّ لِلسَّلاَمِ" (عبرانيين 11:12).

ثالثًا: ضبط النفس ومراقبة دوافع الجسد

إن حياة الملء والتأثير الإلهي الكامل في حياتنا تتطلب أن نضبط مشاعرنا وميولنا الجسدية. فالرسول بولس يشبّه حياة الإيمان أيضاً بالجهاد في ميادين القتال. والحروب الروحية تبقى متواصلة على المؤمن ما دام سائراً في الطريق الصحيح. "وَكُلُّ مَنْ يُجَاهِدُ يَضْبُطُ نَفْسَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ. أَمَّا أُولئِكَ فَلِكَيْ يَأْخُذُوا إِكْلِيلاً يَفْنَى، وَأَمَّا نَحْنُ فَإِكْلِيلاً لاَ يَفْنَى"
(1كورنثوس 25:9).

لأنه لا يوجد ما يضلنا ويقودنا إلى مواطن الخطر مثل الحواس التي خلقها الله في الأصل لخدمة النفس وسلامتها، وقد استخدمها الشيطان لغرض الإيقاع بنا. فالعين، والأذن، واليد، واللسان، والشهوة، جميعها منافذ سهلة تستخدمها الخطية. ويوصي الرسول بولس بضبطها بقوة: "بَلْ أَقْمَعُ جَسَدِي وَأَسْتَعْبِدُهُ، حَتَّى بَعْدَ مَا كَرَزْتُ لِلآخَرِينَ لاَ أَصِيرُ أَنَا نَفْسِي مَرْفُوضًا" (1كورنثوس 27:9). ويذهب إلى ما هو أبعد من ذلك فيقول: "وَلكِنَّ الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ" (غلاطية 24:5).

رابعًا: استخدام وسائط النعمة

يظن البعض أنهم يستطيعون الثبات – فيما يسمونه إيماناً – بوسائطهم الخاصة التي يبتكرونها لأنفسهم متذرعين بالقول: "إن المسيحية ليست ديانة فرائض وواجبات محددة بل هي حياة شخصية حرة". وغالباً ما يكون هذا القول حقاً يراد به باطل. فالمسيحية هي فعلاً حياة ولكنها حياة ممتلئة وليست فارغة. وبعض أصحاب ذلك القول يبتعدون عن وسائط النعمة المعتمدة كتابياً لأنهم لا يريدون حفظ وصية كتابية، ولا حياة متواضعة، ولا إتمام برٍّ.. هؤلاء المتحررون كثيراً ما يكونون سبب تدمير لكنيسة المسيح أكثر من المقاومين وغير المسيحيين لأنهم بتصرفاتهم تلك يبعدون الناس عن الحياة المدققة، وينشرون فكرة الاكتفاء والفتور في نفوس الضعفاء، بالإيمان. لذا فأنت تجد الكنائس فارغة في أوقات العبادة، بينما نرى أصحاب الديانات الوثنية والعبادات الباطلة يتهافتون على أماكن عبادتهم بكل اجتهاد ومواظبة!!

ووسائط النعمة ليست من ابتكارات شخصية بل هي موضوع وصايا كتابية واضحة:

1- الصلاة: تقول كلمة الله: "وَاظِبُوا عَلَى الصَّلاَةِ سَاهِرِينَ فِيهَا بِالشُّكْرِ،" (كولوسي 2:4)؛ "مُصَلِّينَ بِكُلِّ صَلاَةٍ وَطِلْبَةٍ كُلَّ وَقْتٍ فِي الرُّوحِ" (أفسس 18:6).

2- قراءة الكلمة الإلهية بتمعّن وحفظها في القلب: وهو أيضاً أمر كتابي واضح. قال الرب يسوع: "اَلْكَلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ" (يوحنا 63:6). وقال أيضاً: "لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ" (متى 4:4). فهو يحثنا لكي نتنغذّى روحياً بكلامه الحيّ. وإرميا النبي يقول: "وُجِدَ كَلاَمُكَ فَأَكَلْتُهُ، فَكَانَ كَلاَمُكَ لِي لِلْفَرَحِ وَلِبَهْجَةِ قَلْبِي، لأَنِّي دُعِيتُ بِاسْمِكَ يَا رَبُّ إِلهَ الْجُنُودِ" (إرميا 16:15). أما يوحنا الرائي فيطوّب القارئ والسامع للكلمة: "طُوبَى لِلَّذِي يَقْرَأُ وَلِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ أَقْوَالَ النُّبُوَّةِ، وَيَحْفَظُونَ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِيهَا، لأَنَّ الْوَقْتَ قَرِيبٌ" (رؤيا 3:1).

3- حضور اجتماعات الكنيسة والمواظبة عليها: يظن البعض أن حضور الاجتماع راجع للرغبة الشخصية وليس مُلزماً. ولكن تقول الوصية: "غَيْرَ تَارِكِينَ اجْتِمَاعَنَا كَمَا لِقَوْمٍ عَادَةٌ" (عبرانيين 25:10).

4- الشركة: أي جعل علاقاتنا الاجتماعية وشركتنا دائماً مع أولاد الله المؤمنين الحقيقيين الذين لا يتسبب اجتماعنا بهم بالمتاعب والعثرات.

وأخيراً وليس آخراً فهناك وسائط كثيرة كعوامل لثبات المؤمن. فالكتاب يحثنا على فعل الخير، والصوم، والتضحية، والعطاء، والخدمة، والبشارة، ولإلهنا كل المجد إلى أبد الدهور، فهو وحده القادر أن يثبت جميع المتكلين عليه.

البقية في العدد القادم

المجموعة: 201004